المنهج القرآني في الإصلاح

31 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017

13 minutes

أحمد الرمح

يتفق المهتمون بتجديد الفكر الديني على أن هذا التجديد يحتاج إلى حركة إصلاح كبيرة، تنهي دور ثقافة الموروث الديني الدخيل على الثقافة القرآنية؛ وتخليص العقل من ثقافة القياس والتقليد المتكئة على إرث مبدعي السلف، وإيجاد ثقافة الإبداع والتطوير المنطلقة من الخطاب الأم، الخطاب القرآني المؤسس للشخصية الإسلامية ثقافيًا، ومحررها من جميع القيود التي كبلتها ومنعتها من النهضة والإبداع، وبما أننا نبحث عن وسيلة لتغيير المجتمع والنهوض به حضاريًا، فإن القرآن طرح رؤيته للتغيير.

الرؤيا القرآنية للتغيير؟

إن تتابع رسالات السماء -كما طرحها القرآن من خلال الأنبياء والرسل- ليست إلا تتابعًا للحركات الإصلاحية، وتجديدًا لمفهوم الدين في عقول حامليه، والتطور الذي ينبغي للدين مراعاته بعد تقديس المجتمع لمفهومات مغلوطة عبادية أو حياتية، فكلما حدث انحراف في الفهم البشري لرسالة الدين، وكلما تكرست فاحشة أخلاقية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، بعث الله رسولًا ليصلح ما أخطأ الناس في فهمه.

وبما أن رسالة محمد ﷺ خاتمة الرسالات، أمر أتباعَه كي يقوموا بمهمة الأنبياء من خلال إصلاح وتجديد مفهوم الدين من حين إلى آخر، وألا يبقوا على مفهوم واحد؛ لأن مرور الزمن على مفهوم واحد يجعله جامدًا وغير متلائم مع ما يفتح الله على الناس من علوم ومعارف؛ لذلك قال:

يبعث الله على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها. (أبو داود)

وهذا الحديث يدل على أن محدثات وتطورات تطرأ على المجتمعات البشرية، فيأتي المجددون والمصلحون لتأطير مفهوم جديد لمعنى الدين ووظيفته، حتى لا ينفض الناس عن التدين الذي يمنح الروح فضيلة أخلاقية تنقذه من الاستغراق المادي.

الخطاب القرآني يدعو دائمًا إلى الإصلاح والتجديد من خلال معالجة الأخطاء الاجتماعية والفكرية والثقافية، لذلك؛ تراه يطرح تجربة الأنبياء والرسل التي تجدها حاضرة في أثناء سوره، وبذلك ينفخ في الإنسان حركة حضارية في الفكر والأخلاق والعمل من خلال القدوة المتمثلة بالأنبياء والرسل، ليتحرك بها في الكون الفسيح، ومن ثمّ؛ يحول نظرته المسترخية البلهاء الكسولة نحو الكون إلى نظرة حضارية واعية، رابطًا هذه النظرة بعمل يكشف من خلاله مجاهل الكون؛ كي تخدمه في حركته الإنسانية، فدعا القرآن الكريم المجتمع للانطلاق نحو قفزة حضارية؛ وأسس لذلك الإصلاح والتجديد من خلال خطوات عملية، وفي الوقت نفسه لفت الانتباه إلى المفاتيح التي تحقق ذلك.

المنهج القرآني في الإصلاح

للوصول إلى الانطلاقة الحضارية، لا بد من تأسيس علمي لها؛ فالمجتمع الحضاري مجتمع قائم على أسس علمية؛ والثورة العلمية تجدد روح المجتمع وتعيد بعثه ليمارس الشهود الحضاري؛ وتدفع به نحو الإبداع والتنمية والإنتاج والرقي، القرآن الكريم لم يضيع الوقت، فكانت الكلمات القرآنية الأولى مؤسسة لذلك:

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}.

هذه الآيات تحثُ على العلمين العلم الديني أولًا؛ لينضبط به العالِم أخلاقيًا والعلم الدنيوي ثانيًا لينهض برسالته إنسانيًا. لذلك؛ كانت {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} للعلم الديني، و{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} للعلم الدنيوي.

ولا يكفي لنهضة المجتمع وتحضره ونموه القراءة الدينية فحسب؛ ففي مرحلة الرشد فهمنا اقرأ الدينية؛ ووجهتنا إلى اقرأ الدنيوية؛ فكنا محط أنظار العالم وقبلتهم، وقدمنا حضارة إنسانية، وعندما ابتعدنا عن الثقافة القرآنية؛ جاءت مرحلة التقليد واستقالة العقل فغاب الرشد؛ فقلدنا وقسنا في القراءة الدينية، ما أدى إلى ضياع أقرأ الدنيوية؛ فتخلفنا.

ثم ينتقل القرآن من العلم إلى العمل؛ فالنظرية لا قيمة لها، مهما كانت عظيمة، إنْ لم يتوفر لها حامل يبرهن على صحتها؛ ويحولها إلى سلوك في الواقع، وخير حامل للعلم العمل. لذلك؛ جاء الأمر القرآني للمجتمع المؤمن بالعمل:

{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} التوبة:105.

القرآن يربط مسألة العمل بالإبداع المتجدد من خلال دعوته للتنافس في التطور والابتكار: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}. الملك:2.

لذلك؛ قُرن الإيمان في كل آي القرآن بالعمل الصالح، والعمل الصالح الذي يطرحه القرآن ليس العبادات فحسب، إنما هو كل خير تستطيع أن تقدمه للبشرية ليمنحها قفزة حضارية وعلوًا في الإبداع والتطور والتنمية؛ حتى لا تكون هناك منغصات للإيمان، ولا يكون المجتمع المؤمن عالة على الآخرين.

وحتى يتحقق ذلك؛ ينتقل القرآن إلى المحور الثالث في الإصلاح المتمثل بهدم الثقافة التي تعتمد على السابقين اعتمادًا كاملًا دون تطوير أو تجديد؛ فمثلُ تلك الثقافة تجعل العقل مقلدًا واتكاليًا غير مبدع ولا منتج ولا مبتكر؛ مكتفيًا بما أنتج السابقون دون إضافة:

{قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} المائدة:104.

تلكمُ الثقافة كانت هروبًا من الإصلاح والتجديد، وذريعة لتقديس ثقافة التقليد:

{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} الشعراء:74.

لذلك؛ ذمَّ القرآن الثقافة الأبوية؛ لأنها كانت مدعاة للاتكال والتقليد والاستهلاك والبلاهة المعرفية:

{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} الزخرف:23.

ثم ينتقل القرآن الكريم إلى المحور الرابع للإصلاح؛ فالعلم والعمل والابتكار والابداع والتنمية؛ لا تنمو في ظل وجود فساد ومفسدين، وحيثما وجِدَ الفساد ستجد الظلم الاجتماعي والسياسي والتقهقر الاقتصادي والتخلف العلمي، وهنا تتولد ثقافة النجاة الفردية، وتسيطر البراغماتية على المجتمع، وبتوسع الفساد وسيطرة المفسدين، تبدأ الطبقة الوسطى التي هي محرّك (دينامو) العلم والعمل في أي مجتمع بالتلاشي، والمجتمع الذي تنهار فيه الطبقة الوسطى ستتخلف فيه التنمية، ويتردى فيه الإنتاج، ويموت فيه الإبداع؛ لذلك؛ يمكننا القول: إن حملة القرآن على الفساد والمفسدين هي لحماية العدالة الاجتماعية والإبداع والابتكار، وجعل العدل في كل شيء عنوانًا للمجتمع.

{وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} الشعراء:152.

ولكن: ما مفاتيح الإصلاح قرآنيًا؟

القرآن يهدي الإنسان إلى مفاتيح الإصلاح حتى لا يشقى فيها؛ وهي مفاتيح صالحة لكل زمان ومكان، وعندما نتدبرها سنجدها مفاتيح علمية؛ ترفض المخارقية والتواكلية؛ وتدعو لإعمال العقل في البحث والملاحظة.

أولى تلك المفاتيح كان قانون السببية، وهو كشف قرآني؛ جاء ليحفز الهمم ويحطم ثقافة الخرافة؛ ليتأسس المجتمع على أسس علمية عقلية سليمة، تربط الأسباب بالمسببات؛ ولقد حطم القرآن (نظرية المصادفة)، وأكد أن كل ما يحدث في الكون لا بد له من سبب أدى إليه؛ وبذلك؛ دعا العقل إلى ربط الأسباب بالمسببات؛ وحثه على اكتشافها، فامتلأت آي القرآن بذلك القانون؛ فكان أحيانًا يأتي بباء السببية ليعلل الأشياء:

{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} الحاقة:24.

وأحياناً يأتي باللام المعللة: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ابراهيم:1.

ثم ينقلك القرآن إلى مفتاح آخر؛ فبعد طرحه لقانون السببية، بوصفه فاعلًا لا يتخلف أبدًا في الموجودات الكونية كلها، يأخذنا من خلاله إلى السنن الاجتماعية التي أكد كثيرًا أنها تتحكم بانهيار ونهوض المجتمعات، ولا تقبل محاباة، ولا تفرق بين مجتمع مؤمن وغير مؤمن:

{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} النساء:123.

وأكد أنّ تلك سنن فاعلة في المجتمعات غير قابلة للاختراق:

{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} الأحزاب:62.

ليصل بك إلى المنحة الأعظم للإنسان، وهي التسخير الكوني له:

{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الجاثية:13.

ولكي يتم ما سبق؛ وتعمُّ الفائدة للمجتمع البشري؛ يطرح القرآن الكريم المفتاح الإنساني التشاركي؛ ليحدث التلاقح الحضاري؛ رافضًا ثقافة التصارع الحضاري:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات:13.

وبعد: إن الذين يرون الإسلام تطبيقًا للشريعة فحسب؛ ويرفضون سنة التدرج؛ أولئك أهملوا المنهج القرآني في الإصلاح؛ ليُقهروا الآخرين على فهمهم؛ وهم مسؤولون عن إخراج الناس من دين الله أفواجًا؟! إن فهم هؤلاء للإسلام ضيّق كثيرًا على الواسع القرآني؟ وحول الرسالة القرآنية من رسالة عالمية أخلاقية من حق البشرية كلها! إلى رسالة خاصة بالجغرافيا العربية، متصارعة مع الجغرافيات الأخرى، وهذا مالا يقبل به القرآن! فالله سبحانه وتعالى رب العالمين وليس رب العرب وحدهم، وإله الناس كلهم، وليس إلهًا للمسلمين ف؛ ورحمته وسعتْ كل شيء.

إن المنهج القرآني في الإصلاح قد تم إهماله من قبل جيل التقليد الذي وجد في الاجتهاد البشري التراثي الخاص بعصر مضى بديلاً عن القرآن؛ فجعله محنطًا على التلاوة في المحاريب وقبور الموتى لتصدق فيه صرخة الرسول في القرآن:

{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} الفرقان:30.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]