بين الآلة العسكرية والتجّار.. الثروة الحيوانية في سوريا تندثر


 

لم يقتصر تراجع المؤشرات الإنتاجية في سوريا على القطاع الصناعي أو التجاري فقط، بل شمل أيضاً القطاع الزراعي بشقّيه النباتي والحيواني، ولا يخفى على أحد أن سوريا كانت من الدول الرائدة في تحقيق اكتفاء ذاتي من منتجات الثروة الحيوانية، إلا أن هذه الثروة راحت تتبدد شيئاً فشيئاً مع مرور السنوات الماضية.

وتشتهر سوريا بتربية أنواع من الحيوانات تعتبر الأكثر طلباً في العالم وخاصة الأغنام من نوع “العواس”، حيث كانت تمتلك نحو 60% من مجموع هذا النوع من الأغنام في العالم بحسب إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “الفاو”، وكانت الكثير من الدول تسعى إلى استيراده أو شراء لحمه من سوريا، كما تميزت أيضاً بوجود “البقر الجولاني” المعروف بإنتاجه وسهولة ولادته وتربيته، فضلاً عن تربية “الماعز الشامي” المتميز بولادة التوائم ووفرة الحليب، كل تلك خصائص أعطت للثروة الحيوانية بشكل خاص وللقطاع الزراعي في سوريا بشكل عام مزايا نسبية ساعدت على زيادة مساهمتها في الناتج المحلي وجعلتها مطلباً للتصدير الخارجي.

وقبل انطلاق الثورة السورية وإشعال النظام حرباً تدميرية لقمعها كانت الثروة الحيوانية في سوريا  تحظى بنسبة كبيرة من المساهمة في القطاع الزراعي، حيث وصلت إلى أكثر من  37% حسب تقرير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “فاو” والتي قدرت قيمة هذا الإنتاج بـ 3.17 مليار دولار عام 2012.

وبحسب إحصائية عام 2007 الصادرة عن وزارة الزراعة فقد وصلت أعداد الثروة الحيوانية إلى 22.8 مليون رأس منها حوالي 17.5 مليون رأس غنم، إلا أن سنوات الجفاف الثلاث التي سبقت الثورة تسببت بفقدان أعداد كبيرة منها، ثم جاءت ظروف الحرب فضربت قطاع الثروة الحيوانية مثلما أصابت غيره، وأدت إلى تدهور واضح وتركت فيه الكثير من المشكلات والآثار السلبية والصعوبات التي دفعت بالكثير من المربين لتخفيض أعداد قطعانهم نتيجة حالة عدم الاستقرار والظروف الأمنية السيئة التي باتت تعيشها تلك المناطق الرعوية والتي تقلصت مساحاتها وتحولت من مراعٍ ترتادها قطعان الماشية إلى ميادين للمواجهات العسكرية.

 

سوق سوداء وغلاء

باحث في الشؤون الزراعية، رفض الكشف عن اسمه، بيّن لـ صدى الشام أن المربّين لم يعودوا يأمنون على قطعانهم من النهب والسلب والسطو في ظل ظروف أمنية سيئة للغاية تعيشها مناطقهم، وتزامن ذلك مع ارتفاع أسعار العلف وتحكم تجار السوق السوداء به، رغم أن مؤسسة الأعلاف وعدت بوضع حد للسوق السوداء عبر استيراد العلف وتوزيعه بسعر جيد للمربين، إلا أن الأقوال خالفت الأفعال، فلم يحدث ذلك، وبقي المربي لوحده يواجه غلاء العلف وندرته، ما دفعه لتقليص عدد رؤوس القطيع، مرغماً وذلك إما عبر الذبح، أو عبر البيع “العابر للحدود” والذي أدى إلى انخفاض واضح وكبير بأعداد الماشية في سوريا.

ونوه الباحث إلى أن عمليات تهريب المواشي من سوريا إلى الدول المجاورة، سواء العراق أو لبنان أو الأردن وتركيا ما تزال تسير على قدم وساق إلى هذه اللحظة وذلك نظراً لفارق السعر الكبير من جهة، ونتيجةً للأسباب الآنفة الذكر والمرتبطة بظروف تربية الحيوانات من جهة ثانية، فمربي الثروة الحيوانية لم يتلقَّ أي دعم حكومي إلى اليوم وعلى مدار السنوات الماضية، فكيف له أن يصمد بمفرده مع غياب المراعي والمناطق الآمنة وارتفاع أسعار الأعلاف وتحكّم التجّار به؟ يتساءل الباحث.

كما أشار إلى أن حركة النزوح التي شهدتها سوريا من المناطق الساخنة إلى الآمنة كان لها الأثر الأكبر على الثروة الحيوانية حيث دفعت بالكثير من المربين لبيع قطعانهم أو تقليل عدد رؤوسها لسهولة التحرك، كما أن عمليات السطو والسرقة ما تزال منتشرة، وخاصة مع ارتفاع سعر الأبقار والأغنام، فسعر الخروف الحي حالياً لا يقل عن 50 ألف ليرة بما أن سعر الكيلو “الحي” منه يصل إلى 1600 ليرة، في حين وصل سعر البقرة الواحدة إلى مليون ليرة وهو ما أثار شهية اللصوص للسطو على المواشي في ظل غياب مظاهر الأمان والحماية.

ويضاف إلى هذه العوامل صعوبات التسويق التي تسبب بها انقطاع طرق المواصلات وارتفاع تكاليف النقل ما جعل أسعار المنتجات الحيوانية ترتفع ليتراجع بالمحصلة حجم الطلب عليها وهو ما أدى لتخفيض الدخل الناتج عن تربية الحيوانات.

وجاء ذلك كله مع فتح المجال لتصدير الثروة الحيوانية خلال سنوات الثورة من قبل حكومة النظام، كقرار وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية عام 2015 القاضي بالسماح بتصدير 6 آلاف رأس من الغنم أسبوعياً بحجة تشجيع المربين وذلك نزولاً عند رغبتهم في تصريف مواشيهم بأسعار عالية وللاستفادة من الضرائب والرسوم الجمركية التي يحصلون عليها لدى تصديرها.

 

 

واقع مؤسف

ورغم إدراك حكومة النظام أن الثروة الحيوانية في سوريا تتجه نحو الاندثار إلا أن إجراءاتها لم تأتِ بالمستوى المطلوب فعملت خلال العام الماضي على استيراد 5 آلاف بقرة هولندية لسد النقص، إلا أن هذه الخطوة لم تكن كافية، بحسب الباحث الذي رأى أن الحكومة “نسيت أن الأهم من هذا هو توفير البيئة المناسبة للثروة الحيوانية من أعلاف وأمان، فقد خسرت سوريا آلاف الأغنام والأبقار في الغوطة الشرقية نتيجة القصف، ما أدى لشح كبير في مادة اللحوم والألبان والأجبان في أسواق دمشق وريفها، وفي الوقت الحالي باتت دمشق تعتمد إلى حد ما على مشتقات الثروة الحيوانية التي تصلها من المحافظات الأخرى مثل حماة وحمص.

وقد دفع النقص الحاصل في هذه المشتقات بحكومة النظام إلى السماح باستيراد اللحوم المجمدة، التي كانت “اللاعب الأساس” في عمليات الغش والخلط بين اللحوم، وتبيّنَ لاحقاً أن ذريعة انخفاض أسعارها مقارنةً بغيرها من اللحوم واهية وغير مقنعة، فسعرها مماثل لسعر لحوم الأبقار والعجل، ولكن الحقيقة التي لا يتم التركيز عليها هي أن الثروة الحيوانية أصبحت في حدودها الدنيا.

ونوه الباحث إلى أن قطعان الماشية تعاني الأمرّين سواء من ناحية توفير الأعلاف أو حتى ذبح إناث الأغنام والخراف الصغيرة وبيعها في الأسواق دون رقيب أو حسيب، مشيراً إلى ضرورة التحرك الجدي لوقف هذه المذبحة بحق الثروة الحيوانية سواء من قبل المتاجرين واللصوص أو من أي طرف آخر يستغل الظروف التي تمر بلها البلاد، وتوفير البيئة المناسبة لتربيتها.

 

 

نفوق بغياب العلاج

 أحد المربّين اشتكى من ارتفاع تكاليف تربية الحيوانات حالياً بدءاً من الدجاج وصولاً إلى الأبقار، لافتاً في حديثه لـ صدى الشام إلى أن العلف هو الأكثر تكلفة بالإضافة إلى الأدوية البيطرية التي أصبحت نادرة، بل إن الأطباء البيطريين أنفسهم أصبحوا نادرين، وبالتالي فإن القطعان تعاني خلال فصل الشتاء وفي بعض أوقات فصل الصيف من الجائحات المرضيّة كالحمى القلاعية والجدري، ونتيجة لقلة كميات اللقاحات المتوفرة أو ضعف التحصينات الوقائية للقطعان فإن الكثير منها ينفق وبالتالي يخسر المربي، ويخرج من دائرة الإنتاج.

وأشار المربي الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه إلى أن سعر العلف غير ثابت أبداً كونه مستورد ويتم تسعيره وفق سعر صرف الليرة مقابل الدولار، ما دفع بتجار السوق السوداء للتحكم به، وأضاف :”نحن مضطرون لشراء العلف وإلا فإن القطيع سيلقى حتفه، وخاصة في فصل الشتاء نتيجة غياب المراعي الطبيعية، ما أثر بشكل مباشر على أسعار اللحوم بالنتيجة”.

 

 

التهريب عوضاً عن التصدير

 خلال العام الماضي فتحت وزارة الاقتصاد بحكومة النظام مجال التصدير مرتين، إلا أن أياً من المربين لم يتقدم لتصدير قطعانه رغم أن العروض كانت مغرية جداً، ويعود سبب ذلك إلى التهريب، حيث لجأ معظم المربين لتهريب قطعانهم إلى لبنان عبر منطقة “قارة” الحدودية المفتوحة، وذلك بهدف الحصول على أسعار أعلى من السعر المعروض من قبل وزارة الاقتصاد.

وبالعموم تُقدّر الخسائر التي طالت قطاع الثروة الحيوانية في سوريا منذ اندلاع الثورة وصولاً إلى نهاية عام 2015 بأكثر من 20 مليار ليرة في قطاع الماشية و 10 مليارات في قطاع الدواجن وذلك بحسب تقرير صادر عن وزارة الزراعة بحكومة النظام مما تسبب بتراجع كميات الإنتاج الحيواني بمقدار 30% وانخفاض أعداد الدواجن بأكثر من 40% الأمر الذي تسبب بارتفاعات جنونية في أسعار المنتجات الحيوانية واللحوم وصلت لأكثر من عشرة أضعاف مقارنة بسنوات ما قبل الثورة.

وقدرت التقارير عدد الأغنام في سوريا بـ 13.5 مليون رأس والأبقار بنحو 819 ألف رأس، كما قدرت عدد الماعز بمختلف أنواعه بنحو 1.6 مليون رأس، وهذه الأرقام تؤكد حجم التراجع الحاد في هذه الثروة في حال تمت مقارنتها مع موسم 2012-2013 إذ بلغ عدد الأغنام نحو 18.8 مليون رأس، والأبقار 1.1 مليون رأس، والماعز 2.294 مليون رأس، والجاموس 7.2 آلاف رأس.

وتشير مصادر متابعة إلى أن الخسائر الحقيقية أكبر مما تعلنه الحكومة، فأعداد الأغنام مثلاً تقلصت إلى نحو 10 ملايين رأس، في حين أن أعداد الأبقار وصلت إلى نحو 400 ألف فقط تنتشر في أرياف حماة الغربية واللاذقية وحمص وطرطوس.



صدى الشام