ماذا يحدث في جنيف؟



عمر قدور
لا تحظى وقائع مؤتمر جنيف4 باهتمام سوري يوازي جنيف2 وجنيف3، على الأرجح بسبب انعدام التوقعات منه، وأيضاً لأن الأمم المتحدة الراعية نظرياً للمؤتمر تبدو عاجزة أمام وفد النظام الذي عرقل ويعرقل الدخول في مفاوضات فعلية. المسألة لا تتوقف هنا على استغلال تفجيرات ترافق، يا للمصادفة!، جلسات جنيف كل مرة، ويصرّ وفد النظام بعدها على عدم مناقشة أي بند قبل الاتفاق على محاربة “الإرهاب”. ولا تتوقف بالطبع عند تصعيد قوات النظام وحلفائه حربها على السوريين عشية المؤتمر وأثناءه، فهذا مما لا ينتقده المبعوث الدولي أسوة بانتقاده مقتل ثلة من ضباط أمن النظام في مدينة حمص، حتى وفد المعارضة لم يتوقف طويلاً عند الهجمة العسكرية الوحشية الأخيرة، وكأنه يستسلم لفكرة عدم جدوى إثارتها، مثلما استسلم لفكرة استكمال الهجوم بضم منصات تدّعي معارضة النظام، ولا تفعل شيئاً سوى التهجم على المعارضة.

لكن عدم الاهتمام بمؤتمر جنيف لا يعني عدم حصول شيء فيه، فالتحذير “التهديد” الذي نقله ديمستورا، وفحواه أن النظام وحلفاؤه سيفعلون بإدلب ما فعلوه بحلب إذا فشل المؤتمر، ينبئ بنوعية وحجم الضغوط التي تُمارس على المعارضة لتقديم تنازلات قد تكون بحجم التهديد المذكور. أما تغاضي المعارضة عن الضغوط التي تتعرض لها فهو على الأرجح ليس نوعاً من “التعقل” تبديه إزاء الاستفزازات، هو بالأحرى استسلام لواقع عزلتها الدولية وضعفها، من دون امتلاكها وعياً مطابقاً لضعفها وما يترتب عليه، أو ما إذا كانت قادرة حقاً على دفع ثمن الضعف، سواء لجهة امتلاكها شجاعة دفع الثمن أو القدرة على فرضه.

لا يثير الارتياح في تصرف وفد المعارضة إذعانه لفرض منصات تكاد تكون موالية، إن لم يكن للنظام فلحلفائه، إذ من هذه الثغرة يريد رعاة تلك المنصات الحصول على تنازلات جوهرية، ومنها أيضاً قد تجد المعارضة مخرجاً لها لتقديم تنازلات تتنصل من المسؤولية عنها. مثلما لا يثير الارتياح إذعانها لمبدأ أن المشاركة تعفيها أمام المجتمع الدولي من مسؤولية عرقلة الحل السياسي، فالمجتمع الدولي أعلم بعدم نيته على فرض حل سياسي حقيقي ومستدام، وما يريده من المعارضة يتعدى المشاركة إلى القبول بسلسلة تراجعات تُعرف بدايتها لكن لا تُعرف نهايتها بعد.

لا نستطيع القول ألا شيء يحدث في جنيف، أو أنه عديم التأثير على الإطلاق. تلك قد لا تكون المصيبة الأكبر، فالأكبر منها ألا يحدث شيء خارج مقرات المؤتمر، وألا يُواجه الأخير بحركة اعتراض تمثّل الثورة، وتضع تحدياً شعبياً أمام منظّميه، وحتى أمام وفد المعارضة ذاته إذا لم يلتزم بمطالب الحد الأدنى. الاتفاقيات العسكرية شأن آخر، ولها ظروفها الميدانية التي يتحكم فيها العسكر أو تحكمهم، أما بقية المطالب فهي غير قابلة للتصرف قانونياً، والالتفاف عليها من خلال الأمم المتحدة، ثم تكريس الالتفاف لاحقاً بقرارات دولية تكتسب صفة القانون، يعنيان السطو على حقوق السوريين، أقله على صعيد الشرعية الدولية.

أول تلك الحقوق غير قابلة للتفاوض هو إطلاق سراح المعتقلين، والكشف عن مصير عشرات الآلاف على الأقل منهم. هذا مطلب لا ينبغي اقتصاره على بضع من عائلات المعتقلين حضرت إلى جنيف كي تضع معاناتها أمام المجتمعين، هي قضية تتعلق مباشرة بملايين من أهالي المعتقلين، وتتعلق بملايين السوريين الذين انتفضوا وطالبوا بإسقاط الطغمة المخابراتية الحاكمة. أمس مرت الذكرى السادسة لاعتقال أطفال درعا، على خلفية كتابتهم آنذاك شعارات من قبيل “أجاك الدور يا دكتور” تيمناً بموجة الربيع العربي، ولئن لعبت هذه القصة دوراً مؤثراً في اندلاع الثورة فإن قصص الاعتقال والقتل تحت التعذيب اللاحقة تستحق وحدها العديد من الثورات.

في سياق متصل لا يحق لأية جهة، بما في ذلك وفد المعارضة، التنازل عن محاكمة مجرمي الحرب، بخاصة القادة منهم. هناك حقوق شخصية تتعلق أولاً بذوي القتلى، فضلاً عن الحقوق العامة المحمية بكافة القوانين الدولية. بدءاً من الحقوق الشخصية لا يحق لأحد التنازل نيابة عن أولياء الدم، ولا يحق لأحد التنازل عن الحق العام إلا وفق مصالحة وسلم أهلي حقيقيين، المدخل إليهما هو عدالة انتقالية تتسم بالشفافية وبالجرأة على تجريم الجناة قبل الجرأة على التسامح.

الملف الثالث، الذي لا يقل أهمية عن الملفين السابقين، هو ملف العودة الطوعية الآمنة لكافة المهجّرين. هذا أيضاً حق شخصي لمن يرغب في العودة، لا يحق لأحد تجاهله أو التفاوض عليه، وهو يزداد إلحاحاً مع الهدن المشروطة برحيل الأهالي التي يعرضها النظام على المناطق المحاصرة، وهي جريمة تطهير ديموغرافي بامتياز. ولعل إثارة هذه القضية تزداد إلحاحاً أيضاً مع ما يُشاع عن رغبة أمريكية في إقامة مناطق آمنة، وما يثير الريبة ألا ترفض موسكو الفكرة من حيث المبدأ وأن تقبل بمناقشتها مع النظام، فمثل هذا التواطؤ قد يفضي إلى إنشاء مناطق ضيقة لحشر المهجرين، غايتها الأساسية إراحة الغرب من همّ اللاجئين، وأثرها على المدى البعيد هو تكريس التطهير الديموغرافي وإبطال حق العودة.

ما يحدث في جنيف لا يلحظ مجمل هذه القضايا التي تمس مباشرة حوالي نصف السوريين، فكل حديث عن الحكم والحوكمة، وكل حديث عن دستور جديد وانتخابات قادمة، يقفزان على طرحها فهذا لا يعني سوى منح شرعية لنظام مجرم. لذا يصحّ ألا ننتظر حلاً من جنيف، إذا عمل أهل الثورة على الإعلاء من شأن تلك التضحيات، وبمقدار صلابتهم أمام محاولات طمسها بذريعة أو أخرى. بعد أيام تمر الذكرى السادسة لاندلاع الثورة، ربما أكثر ما ينبغي التفكير فيه هو ألا تكون مجرد مناسبة تفرض فحسب ذكراها كل عام.

“المدن”



المصدر