العنف السياسي والمواثيق الدولية

5 نيسان (أبريل - أفريل)، 2017

11 minutes

ماسه بشار الموصلي

على الرغم من كلّ مظاهر التحضر الإنساني التي عمّت كوكب الأرض، إلا أن التوحش ما زال مختبئًا بين دهاليزها، يتربى في أحضان الحقد والطمع، ويمدّ بين الحين والآخر مخالبه ليتناول وجبته المفضلة من أجساد البشر.

تشير الأرقام إلى أن الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين كانت أكثر الصراعات عنفًا ودموية عبر التاريخ، إذ قُدّرت الخسائر البشرية بنحو 50 مليون ضحية، وعدد العاجزين بثلاثين مليونًا، وأغلبهم من المدنيين نتيجة القصف وأعمال الإبادة وظهور المجاعة.

كان من نتائج تلك الحرب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي وقّعت عليه الدول في الأمم المتحدة، بوقف العنف والحروب، ومنع الاعتقال التعسفي، والتعذيب في أثناء الاعتقال، وتقديم أي مدان إلى محاكمة عادلة في محاكم غير منحازة، وغيرها من البنود التي وصلت إلى الثلاثين، جميعها لضمان حق الإنسان في الحياة بسلام. واعتمدت الجمعية العمومية الإعلان في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1948، بعد تعهّدِ المجتمع الدولي بعدم السماح -مطلقًا- بوقوع فظائع وانتهاكات وأعمال عنف وحروب، والحد من التسلح ومنع استخدام الأسلحة الكيماوية والنووية، واتفق الأعضاء على إكمال ميثاق الأمم المتحدة بخريطة طريق، تضمن حقوق كل فرد في أي مكان أو زمان. ويُعدّ هذا الإعلان أهم الوثائق التي اعتُمد عليها في صوغ القانون الدولي، أو الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، والبنود الواردة فيه ملزمة لجميع الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة.

قبله بأشهر، أعلنت “إسرائيل” قيام دولتها في 15 أيار/ مايو 1948، وجاءَ إعلانُ الأمم المتحدة لميثاقَ حقوق الإنسان خطوةً تُمنح من خلالها الشعوب المستعمرة لتي لم تنل استقلالها بعد من الدول العظمى الخارجة من حرب منهكة، إبرة مخدّر، وصولًا إلى إضفاء الشرعية على “دولة إسرائيل”، وقبولها عضوًا في الأمم المتحدة، بعد عام من إعلانها قيام دولتها، أي في أيار/ مايو 1949، في الوقت الذي كانت تداس فيه حقوق الإنسان الفلسطيني بالأقدام، أمام مرأى ومسمع العالم؛ إذ طُرد بعد حرب 1948 من أرض فلسطين 935 ألف إنسان، تحولوا إلى لاجئين في الشتات.

لقد كان قبول انضمام “إسرائيل” إلى الأمم المتحدة مخالفًا؛ لأسباب نشأتها في إحلال السلم الدولي، ولشرعة حقوق الإنسان، وكأن الإرادة الدولية كانت تتجه إلى تمكين “إسرائيل” من أن تستعمل كل وسائل العنف بحق شعب، هو صاحب الأرض، ومنحها الضوء الأخضر كي تقفز فوق أي قرار أو ميثاق دولي بعدئذ.

في 16 كانون الثاني/ يناير 1966، صدر العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية عن الجمعية العمومية، مُلزمًا الدول الأعضاء في الأمم المتحدة للتوقيع عليه، وأهم ما جاء فيه هو حق الشعوب في تقرير مصيرها، وإلزام الدول الأطراف في هذا العهد باحترام الحقوق المدنية والسياسية للأفراد، بما في ذلك الحق في الحياة، وحرية الدين والتعبير والتجمع والحقوق الانتخابية وحقوق إجراءات التقاضي السليمة، والمحاكمة العادلة، ووقعت عليه معظم دول العالم، التي بلغ عددها 168 دولة؛ حتى عام 2012. ومن بينها من قاد ويقود عجلة العنف، ويفتعل الفتن، ويؤجج الصراعات، ويشن الحروب حول العالم.

في ظل هذه المواثيق والمعاهدات الدولية الإنسانية، انتُهكت وتنتهك كل يوم كرامة ملايين البشر، وتُرتكب أفظع أعمال العنف بحق الإنسان، وبعد كل مجزرة تقوم المنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة وغيرها من المراصد الإنسانية، برصد أعداد المغتصبة حقوقهم السياسية والمدنية، وباحتساب أعداد المُهجّرين من بلدانهم، وأعداد المعتقلين بالسجون، وتتفاجأ من تطوّر أشكال التعذيب، وكأن وظيفتها انحصرت في إحصاء الجرائم الـ “لا إنسانية” وإبداء القلق على مصير البشرية.

الولايات المتحدة لا تخسر

ما إن رفع الربيع العربي صوته بالمطالب الشعبية “الديمقراطية والحرية”، مطلع 2011، ضد الأنظمة الحاكمة الفاسدة، حتى وجدت الولايات المتحدة فرصتها الثمينة للخروج من بؤر النزاع التي حققت فيها النصر الذي أرادته (الطائفية والفوضى والدمار في المؤسسات والأهم من كل ذلك، تصدير الإرهاب من أفغانستان إلى العراق)، ولكن لا خروج من غير ابتكار حدث يُدهش العالم أجمع ويجعله يصفق لها، وكان الحدث أن أعلنت فجر 2 أيار/ مايو 2011 إنجازها لعملية قتل “الإرهابي العالمي الأول (ابن لادن) ورميه في البحر”، وبعد ذلك بخمسة أشهر، أعلنت انسحاب آخر جندي أميركي من العراق.

لم تكن الثورات والاحتجاجات الشعبية التي قامت في بلدان عربية خطة مؤامرة مرسومة من أقوى قوة في العالم، الولايات المتحدة، كما ادعت الأنظمة الحاكمة المستبدة، لكن المؤكد أنها كانت تنتظر حدوثها، فمن يريد حكم العالم لا بدّ من أن يضع خططًا متعددة تكون جاهزة للعمل بها متى تهيأ الوضع، وقد كان الوضع السياسي والاقتصادي في الوطن العربي جاهزًا لانطلاق الثورات، والأسباب الداعية لها قد اجتمعت؛ فهي كلها صناعة عنف محلي، تعبت كثيرًا الحكومات الديكتاتورية في تركيز أسهها حتى أنتجت الفساد، والبطالة، والفقر، والحرمان الاجتماعي والسياسي، والإهانة، وانعدام الحريات، وسوء تعامل أجهزة الأمن مع المواطن وإذلاله. هذه البيئة الظالمة هي التي أنتجت الثورات، ومن ثم؛ هي التي منحت الفرصة للدولة الأقوى، الولايات المتحدة تأمينًا لمصالحها، والعمل بخطة من بين الخطط المتعددة التي رسمتها، خطة تتلاءم مع ظرفي البيئة الجغرافية والسكانية لكل دولة قامت بها ثورة، ولتمسك بدفة قيادة حلفائها، حلف شمال الأطلسي، ولتبدأ المصالح الدولية مرحلة عنف جديدة في القرن الحادي والعشرين ضمن بند مكافحة الإرهاب، هذا القرن الذي عادت به روسيا الاتحادية إلى واجهة سياسة اقتسام المصالح الدولية، مقابل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.

أعادت الاحتجاجات في سورية للنظام الأسدي صور الاحتجاجات التي قامت عليه في الثمانينيات، فقرر التعامل معها بالأسلوب القمعي نفسه الذي تعامل به الأسد الأب في تلك المرحلة، فكان الحل الأمني منذ البداية قراره؛ للقضاء على الاحتجاجات التي تحوّلت خلال مدة قصيرة إلى ثورة مشتعلة في أغلب أنحاء سورية تُطالب بإسقاط النظام.

عندما قامت حلب كان تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي قد غزا سورية، هذا التنظيم الذي انبثق عن قاعدة العراق التي استوردتها أميركا من أفغانستان إبان احتلالها له، ليتمدد إرهابه في المنطقة العربية كلها، يأكلُ ثورات الشعب العربي وأحلامهم في بناء دول ديمقراطية، ويكونَ غطاءً شرعيًا دوليًا للتدخل العسكري من الدول ذات المصلحة في المنطقة، بدءًا من روسيا، مرورًا بإيران؛ إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة.

فأين هذا كله من القانون الدولي وإعلان حقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية الذي كفل حق الشعوب في تقرير مصيرها، أم أن شعوبنا لا تنتمي وفق المعايير الدولية الإنسانية إلى فصيلة الإنسان؟ ويتبين لنا أن تلك الأمنيات الإنسانية التي دعت إليها الدول التي أسست الأمم المتحدة، وصيغت في شكل إعلان؛ لتكفل حقوق البشر جميعًا، لم يكن الهدف منها تطبيقها تطبيقًا عادلًا على النطاق الدولي قطّ، وأن تلك الدول لم تكن في ذلك الوقت بريئة من نية إيجاد تشكيل جديد لدول العالم التي كانت تستعمرها؛ كي تتمكن من تحقيق هدف استمرارية التحكم بها.

العنف السياسي في سورية إبان حكم البعث وآل الأسد

يمكن اختصار أشكال العنف في سورية في شكلين: العنف المُشرعن، والعنف المركب.

1 – أما العنف المُشرعن فهو مجمل الممارسات التي قام ويقوم بها النظام الحاكم، واضعًا لها إطارًا قانونيًا ودستوريًا، هذا الغطاء الذي استحدثه؛ كي يُكسب كل عنف يقوم به صفة شرعية تنسجم مع القوانين الدولية والإنسانية، والهدف منه سعي السلطة لشرعنة العنف ضد المواطنين.

من هذا العنف المشرعن:

– القانون 49 لعام 1980، المتعلق بالإخوان المسلمين، وعد كل منتسب إلى التنظيم مجرمًا يعاقب بالإعدام.

– إنشاء المحاكم الاستثنائية، كالمحكمة الميدانية السرية التي أنشأها النظام في الستينيات، وتُصدر أحكامًا بالإعدام قطعية وغير عادلة، وهذه المحكمة بقراراتها مخالفة للقوانين الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية الذي خص كل إنسان متهم بتهمة تخص أمن الدولة بمحاكمة علنية في محكمة غير منحازة. وقد أُعدم كثير من المعارضين بقرارات من هذه المحكمة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وقد نشطت عند بدء الثورة في 2011، وسُمّيت مقبرة الناشطين والثائرين، إذ إن أغلب من حُوّل إليها كان من العاملين في المجال الطبي والإغاثي، أو جرى اعتقالهم عشوائيًا وإجبارهم على التوقيع في الأجهزة الأمنية على تهم جاهزة مُلفقة بحقهم من غير مستند قانوني.

– محكمة مكافحة الإرهاب التي تشكلت بما يسمى “القانون 22 لعام 2012″، بعد شهر من صدور “قانون مكافحة الإرهاب”، ومقرها دمشق، وبحسب تقرير هيومان رايتس الصادر في 25 تموز/ يوليو 2013؛ فإن هذه المحكمة أنشئت لإعطاء الغطاء القانوني لاعتقال وتعذيب المعارضين على أيدي أجهزة أمن النظام السوري، دون ضمانات في محاكمة عادلة على أفعال لا يجوز تجريمها -أساسًا- في القانون الدولي.

2 – الشكل الآخر هو العنف المركب، ويشمل كل أشكال العنف التي تقوم بها الأجهزة الأمنية ورجالاتها بحق المواطنين، دون الاستناد إلى حجج قانونية أو دستورية، والموجه الأساسي الحقيقي لها هو البقاء في السلطة، والقضاء على أي احتجاج يطال النظام الحاكم. وهذا الشكل من العنف كان الأساس في بناء ومسيرة شكل الحكم في سورية منذ عام 1963 حتى اليوم، مع تفاوت نسبة العنف بين مرحلة تاريخية وأخرى.

لا يمكن إجراء إحصاء لحالات العنف المركب التي وقعت في سورية؛ لأنها ليست حالات استثنائية، وإنما عامة، تبدأ من الترويع الذي يُمارسه رجل الأمن بحق أي مواطن في الشارع، وتنتهي بحالات القتل الفردي والجماعي.

(*) خلاصة بحث قُدّم أمام مجموعة اللقاء السوري في دبي، خلال ندوة خُصّصت للحديث عن العنف الدولي.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]