محددات العلاقات الروسية– التركية وآفاقها


مركز حرمون للدراسات المعاصرة

المحتويات

مقدمة

أوّلًا: تاريخ استدارة أنقرة نحو موسكو

ثانيًا: مرتكزات التقارب التركي– الروسي

أ– المرتكزات الروسية

ب– المرتكزات التركية

ثالثًا: حدود التفاهمات الروسية– التركية حول المسألة السورية

رابعًا: معوّقات التقارب الروسي- التركي 

أ- الموقع الجغرافي والاستراتيجي لتركيا

ب- تداخل مناطق النفوذ

ج- انتماء تركيا إلى حلف الناتو              

د- إحباط الروس للمنطقة الآمنة التركية

ه- الشك التركي في الموقف الروسي من الأكراد

خامسًا: تركيا تلعب في الوقت الضائع

خاتمة

مقدمة

يعود القاسم المشترك بين روسيا وتركيا إلى كونهما سليلتي إمبراطوريتين أورو آسيويتين، لكنهما مستبعدتان -إجرائيًا وتاريخيًا- عن ترتيبات البيت الأوروبي الغربي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، وحتى يومنا هذا. وإذا أضفنا حالة التباعد الحالي بين المنظومة الأطلسية وموسكو، بالترافق مع التعامل الحذر بين المنظومة ذاتها وتركيا، فإننا سنرى حينها أحد محدِّدات التقارب الروسي- التركي، وهو تقارب من شأنه أن يُخلَّ بالمعادلات الجيوسياسية، إذا ما سار قُدمًا.

من جهة أخرى، لا يمكن إنكار ميراث تاريخيّ من الخلافات بين البلدين، لعل أبرزها: الخلافات حول المرور في مضيق البوسفور، والتنافس على نقل بترول آسيا الوسطى وبحر قزوين، والموقف من قضية النزاع حول منطقة ناغورني كاراباخ بين أذربيجان وأرمينيا، والمسألة السورية، والقضية القبرصية، والدعم الروسي لليونان، ومشكلة الشيشان والموقف التركي منها.

وعليه، يصحّ القول إنّ الجانب الاقتصادي يمثّل حجر الزاوية في مسار التقارب التركي- الروسي، حيث تُعدّ تركيا سابع أكبر شريك تجاري لروسيا، إضافة إلى أنها الوجهة الأولى للسيّاح الروس، وثاني أكبر أسواق التصدير بعد ألمانيا بالنسبة إلى شركة “غاز بروم” الروسية العملاقة، في حين تشغل روسيا المركز الثاني بين الشركاء التجاريين الرئيسين لتركيا.

لقد عُدّت العلاقات الروسية- التركية أنموذجًا للبراغماتية السياسية، حيث تختلف مواقف البلدين إزاء بعض القضايا من دون أن يؤثر ذلك في مجمل التطور الحادث في العلاقة بينهما. ولكن ستبقى العلاقات الروسية- التركية محكومة بحقائق الجغرافيا السياسية بين الدولتين وبأجواء عدم الثقة القائمة منذ عقود.

أوّلًا: تاريخ استدارة أنقرة نحو موسكو

من الناحية التاريخية، ليست استدارة تركيا نحو روسيا هي المرة الأولى. فلو تجاوزنا الدعم السوفياتي الحيوي لمصطفى كمال أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي، لوجدنا أمثلة أخرى كثيرة: عدنان مندريس، بولنت أجاويد، سليمان ديميريل. أما المدّة الزمنية الأكثر حميمية، والأطول، فقد كانت مع وصول حزب (العدالة والتنمية) إلى الحكم في تركيا عام 2002. ففي العقد الأول من القرن الحالي، سعت موسكو وأنقرة لأداء دور أكبر في النظام العالمي، وشعرتا بالإحباط، ما عدّتاه رفضًا غربيًّا لهذا الدور. والعامل الأبرز في الشراكة الروسية– التركية، إثر بلوغ إردوغان رئاسة الحكومة في 2002، هو تقهقر القوة الروسية بعيدًا عن الحدود التركية، إثر انهيار الاتحاد السوفياتي.

لقد حظيت زيارة الرئيس التركي في التاسع من آب/ أغسطس 2016 إلى سان بطرس بورغ، بعد إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، باهتمام ومتابعة واسعين، لما فتحته من إمكانات التعاون حول قضايا عدّة، وخاصة المسألة السورية، ذلك أنّ الطرفين شعرا بثقل ورطتهما في هذه المسألة.

إنّ إرث الحرب الباردة والخلافات الكبيرة بين الجانبين حول قضايا (أوكرانيا وأرمينيا وأذربيجان في القوقاز، وكوسوفو في البلقان، وقبرص اليونانية، وأخيرًا سورية)، دفع البلدين إلى إعطاء البعد الاقتصادي في علاقتهما دورًا رئيسًا، بسبب حاجة كل طرف إلى الآخر، وترك الخلافات السياسية جانبًا، أو على الأقل الحيلولة دون تأثيرها في القضايا الاقتصادية.

ثانيًا: مرتكزات التقارب التركي– الروسي

الكيانات السياسية الكبرى لا تتقارب أو تتباعد على قاعدة الانعطافات الحادة، بل على أسس متدرجة وراسخة، تبدأ بالتعاون، وصولًا إلى التكامل، فالتحالف الوثيق. وفي هذا السياق، لا يتردّد الرئيسان، إردوغان وبوتين، في الانطلاق من الجغرافيا السياسية. فبوتين يدرك أنّ أي زعيم روسي يجب أن يوفّر مناطق عازلة لروسيا في أوروبا الشرقية والقوقاز، وإردوغان يدرك أنّ بلاده يجب أن تصبح قوة مهمة في الشرق الأوسط، من أجل كسب النفوذ في أوروبا، وكلاهما يشعر بمزيد من عدم الارتياح من الغرب الذي يقارب كلًا منهما بحذر، وينأى بنفسه عنهما. ويبدو أنّ الطرفين يدركان بدقة أهمية ترميم العلاقات، ومدى استفادتهما من البراغماتية المتبادلة التي يحتاجان إليها. إنها سياسات المصالح التي تجمع الأعداء وتفرق الحلفاء.

أ– المرتكزات الروسية

تمرّ العلاقات الروسية مع الغرب، بشقيه الأوروبي والأميركي، بأسوأ مراحلها منذ أن تحسّنت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، حيث كانت أوكرانيا شرارة هذا التوتر الذي عرف أبعادًا غير مسبوقة لجهة الرغبة الغربية في معاقبة روسيا على دعمها الانفصاليين الأوكرانيين، وعلى ضمّها شبه جزيرة القرم. وقد بلغت الحرب الغربية الاقتصادية على روسيا مرحلة محاولة خنق الاقتصاد الروسي. ومن هنا تتعدد المرتكزات الروسية للتقارب مع تركيا:

* تعدّ تركيا باب روسيا البحري من البحر الأسود إلى البحر المتوسط، وهذا شريان حياة بالنسبة إلى روسيا.

* تنظر موسكو إلى أنقرة بوصفها رئة تنفّس اقتصاديّ، وطوق نجاة إستراتيجيًا لتقليص التداعيات السلبية والموجعة للعقوبات الغربية التي تحاصرها منذ صيف 2014، بجريرة الأزمة الأوكرانية، ولا سيّما بعدما رفضت تركيا أن تتشارك مع الدول الغربية في فرضها أو تطبيقها على روسيا؛ وبكونها، إلى حدّ بعيد، الشريك الوسيط لنقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا، إثر فشل مشاريع الطاقة الأوروبية المشتركة، وأهمها مشروع (دفق الجنوب).

* يعلم بوتين قدرات تركيا المحدودة نسبيًا في تغيير موازين القوى الدولية، إلا أنه يريد استثمار الفجوة الراهنة في المواقف التركية- الأميركية لمصلحته، للحيلولة دون إكمال تركيا دائرة الطوق المفروض على روسيا بالانضمام إلى الجهد الأميركي في رومانيا وأوكرانيا وحائط الردع الصاروخي، وللتضييق عليها في مجالاتها الجغرافية الحيوية، وهي دروس الصراع الغربي مع روسيا في القرون الثلاثة الماضية. أضف إلى أنّه يستغلّ تدهور الثقة بين تركيا والولايات المتحدة، التي لم تستجب لأي من المتطلّبات التركية في سورية، بما في ذلك تلك التي تمسّ الأمن القومي التركي مباشرة، كالملفّ الكردي. كذلك ترى روسيا أنّ القوى المناهضة للنفوذ التركي باتت تكوّن قوسًا كاملًا في محيطها الإستراتيجي، وأنّ أنقرة تستشعر تحجيمًا، ليس لنفوذها فحسب، بل لعلاقاتها السياسية مع محيطها أيضًأ. وكذلك، يريد بوتين أيضًا إيصال رسالة إلى العواصم الغربية، مفادها أنه قادر، على الرغم من العقوبات والحصار، على اختراق المعسكر الغربي والتغلغل إلى عقر داره.

* تمثّل تركيا، في مقاربة موسكو الإستراتيجية، خاصرة لأوراسيا، أي الفضاء الحيوي الروسي الذي يمثّله معظم الاتحاد السوفياتي السابق في مخيلة الرئيس بوتين، لأنّ تركيا ترتبط بشعوب آسيا الوسطى في هذا الفضاء بمشتركات إثنية ودينية حاضرة، وأخرى تاريخية تحفّز على تخيّل مستقبل مختلف، أي إسلامي مقلق. خاصة ما يتردد في موسكو من دعم تركيا لبعض منظمات تتار القرم، التي تعدّها روسيا متطرفة.

* ترى روسيا أنّ تركيا، بعد تداعيات محاولة الانقلاب في 15 تموز/ يوليو 2016، أكثر قابلية واستجابة للشراكة، إن استطاعت روسيا تقديم مستوى من الطمأنينة في شأن الملفات التي تقلقها، وأن تصبح جزءًا من القسمة التي ترتئيها روسيا في المنطقة، فتغدو تركيا قابلة للاعتراف بالأمر الواقع في سورية، مع شيء من التغييرات الشكلية لحفظ ماء الوجه، والأمر نفسه قد ينطبق في العلاقة مع إيران والعراق وشرق أوروبا والبحر الأسود وتوريد الغاز.

* تبحث موسكو في سورية، عن خطوط تلاقٍ مع تركيا، لإجراء اختراق في صفوف التحالف الدولي المضاد للنظام السوري، من البوابة التركية، على الرغم من تباعد كبير في مواقف الطرفين من المسألة السورية، فتركيا ما تزال تُصرّ على رحيل الأسد، وتطالب بمنطقة عازلة شمالي سورية، وهي مطالب ترفضها موسكو بحزم، وتُصرّ على ترك مسألة الأسد إلى مرحلة لاحقة. وتدرك موسكو أنّ تركيا هي الدولة الإقليمية الأكثر قدرة على التأثير في المعارضة، والأكثر قدرة على الفعل في الميدان السوري، بحكم الحدود الممتدة نحو 900 كلم مع سورية، وعلاقاتها مع فصائل إسلامية مقاتلة على الأرض.

ب– المرتكزات التركية

على وقع التفاهمات بينهما، أبدل الرئيسان إردوغان وبوتين لغة التهديدات بلغة براغماتية، تجلّت في اللقاءات والاتصالات المتكررة بينهما. ولعل ثلاثة أسباب رئيسة وقفت وراء هذه التفاهمات: أولها، توتر علاقات تركيا مع الغرب، بشقيه الأميركي والأوروبي، حيث امتعضت أنقرة من سياسة الغرب تجاه المسألة السورية، خاصة الدعم الغربي لقوات سورية الديمقراطية الكردية. وثانيها، البعد الاقتصادي الذي يمثّل عاملًا حيويًا في العلاقات الروسية – التركية. وثالثها، أنّ التدخل العسكري الروسي أنتج في سورية معادلة جديدة على الأرض، رأت تركيا أنّ من الأفضل التعامل معها، في ظل موازين القوى والاصطفافات الإقليمية إزاء المسألة السورية.

* ترى أنقرة في تقاربها الاستراتيجي الاضطراري مع موسكو، تعويضًا اقتصاديًا عن انحسار التجارة الإقليمية نتيجة ربيع الثورات العربية، وتدهور السياحة على خلفية الركود الاقتصادي العالمي. ويرتكز هذا التعويض على تبادل تجاري متنامٍ، وتدفق سياحي روسي متعاظم، وتنسيق عالي المستوى في مجال أمن الطاقة ومشروعاته اللوجستية العابرة للقارات.

ومن جهة أخرى، يُمثّل ارتفاع العائد الاقتصادي المتوقع لأنقرة من الشراكة مع موسكو أحد أسباب حرصها على الانفتاح على الجار الروسي. فاقتصاديًا، تظل روسيا رقمًا صعبًا في معادلة أمن الطاقة لتركيا.

إنّ العقوبات الاقتصادية، التي فرضتها روسيا على تركيا بعد حادثة الطائرة، أثرت سلبًا في بعض قطاعات الاقتصاد التركي، منها السياحة والبناء والصادرات الغذائية. وبلغت خسائر تركيا، من جرّاء هذه العقوبات، نحو 10 مليارات دولار، إلى جانب تراجع عدد السياح الروس إلى المنتجعات التركية إلى أكثر من 80 في المائة. إضافة إلى أنّ حاجة تركيا إلى الغاز الروسي كبيرة جدًا، لأنّ 70 في المائة من الغاز الذي تحتاج إليه يأتي من روسيا، وهذا شريان حياة اقتصادية واجتماعية وسياسية للدولة التركية. التي كانت تراهن على أنّ خط أنابيب نقل الغاز الروسي الجديد إليها وعبرها سيمنحها فرصة التحول– مستقبلًا- إلى وسيط كبير لبيع الغاز الطبيعي الروسي، حيث سيمرّ عبرها إلى بلدان الاتحاد الأوروبي.

ظهرت الاستفادة من نجاح عملية إعادة تطبيع العلاقات التركية- الروسية لممارسة مزيد من الضغوط على الحلفاء الغربيين، الذين خذلوا أنقرة في أكثر من ملف وقضية: ردّات فعلهم الفاترة حيال محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، والمقاربة الأميركية للحل في سورية، وقد اعتمدت التحالف مع أكراد العمال الكردستاني، ومماطلة الأوروبيين في عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد، وفي تنفيذ التزاماتهم في إطار اتفاق اللاجئين، وإلغاء تأشيرة الدخول عن المواطنين الأتراك الراغبين في دخول فضاء (شينغن)، وكذلك الدعم الخجول الذي قدمه حلف (الناتو) إلى أنقرة خلال أزمتها مع موسكو، وتقاعس دول الحلف عن مساعدتها في بناء نظام دفاع صاروخي، والضغط عليها للتراجع عن الاتفاق الذي كانت قد وقعته مع إحدى الشركات الصينية في هذا المجال، وجميعها عوامل أثارت استياءً تركيًا من الغرب.

* مع دخول معركة طرد تنظيم (داعش) من مدينة الرقة واحدة من أكثر مراحلها حرجًا، تسعى تركيا لتحقيق أهدافها بحماية أمنها القومي، في ظل وجودها بين روسيا التي لا تعنيها إلا زيادة نفوذ حليفها بشار الأسد، والولايات المتحدة التي يبدو أنها أدارت ظهرها وبصورة نهائيّة لتركيا، مقرّرة الاعتماد على عدو الأخيرة التقليدي، الجناح السوري لحزب (العمال الكردستاني) أي حزب (الاتحاد الديمقراطي).

* ظهرت أفكار مشروعات كبرى على قدر كبير من الأهمية تتجاوز الـ (بيزنس) بين البلدين، لتطال توازنات عالمية، ومن أمثلة هذه المشروعات بناء محطات نووية روسية لتوليد الكهرباء على الأراضي التركية، وما يعنيه ذلك- في حال حدوثه- من شراكة إستراتيجية ممكنة بين أنقره وموسكو. لكنّ المشروع الأهم والأخطر يتمثل بمشروع تمرير أنابيب الغاز الطبيعي الروسي إلى البحر الأبيض المتوسط عبر الأرض التركية أو ما يطلق عليه (السيل التركي). إلا أنّ الحديث عن عرض روسي لبناء منظومة للدرع الصاروخي للجيش التركي كان الأبرز والأكثر حساسية في الملفات المطروحة حتى الآن، لما يحمله من أبعاد إستراتيجية كبيرة. فالأمر هنا يتعلق بأبرز الملفات حساسية في العلاقة بين تركيا وحلف (الناتو)، الذي يُعارض بشدة استخدام تركيا لأي منظومة درع صاروخي غير التابعة للحلف (منظومة الباتريوت).

إن التقارب الروسي- التركي، إذا كان يُفهم من منظور الأزمة الحادة التي عرفتها علاقات أنقرة بشركائها الغربيين، بعد محاولة الانقلاب العسكري لإطاحة إردوغان في 15 تموز/ يوليو 2016، مع ارتباطه مباشرة بتداعيات الملفّ السوري، فإنه يندرج في بعد إستراتيجي أوسع هو انتقال المحور الجيو- سياسي العالمي إلى آسيا، بما يضع تركيا في قلب معادلة دولية معقدة تضبطها العلاقات بين القوى الثلاث المتنافسة على التحكم في المجال الآسيوي: الولايات المتحدة وروسيا والصين. وما نلمسه اليوم، في المرحلة البوتينية، هو خروج روسيا من طموحها الأوروبي الذي سيطر على الحكومات الانتقالية بعد نهاية العصر السوفياتي، لتوطيد حضورها الآسيوي واستثماره في قواعد اللعبة الدولية الجديدة، بينما تتجه تركيا، إذا اضطرت إلى التخلّي عن طموحها الأوروبي، إلى التموضع في المجال الآسيوي الجديد.

لقد وجد الرئيسان، بوتين وإردوغان، كل في الآخر منقذًا له من أزماته الحالية، فتقاطعت المصالح الاقتصادية والسياسية، ومع أنّ بعض المراقبين يتطلع إلى أن تنعكس الانطلاقة الجديدة للتعاون الثنائي تقاربًا في الملفات الخلافية، فإنّ هذا غير متوقع، خصوصًا أنّ تركيا عضو في حلف (الناتو)، وهي في تعاونها مع روسيا إنما تستخدمها ورقة ضغط على حلفائها الغربيين، ومن ثمّ، فإنّ البعد الإستراتيجي من العلاقات التركية- الروسية لا يُبنى على مشكلات ظرفية يواجهها البلدان، ويعملان على مواجهتها ببعض الاتفاقات الاقتصادية؛ فتركيا ما تزال ضرورة إستراتيجية للغرب، ولا يُمكن له أن يتخلّى عنها ويسمح بتحالف إستراتيجي بينها وبين روسيا. وعليه، فلا يمكن الحديث عن شراكة إستراتيجية بين موسكو وأنقرة، لكن، قياسًا على حال الاحتقان بين البلدين بعد إسقاط الأتراك لطائرة سوخوي الروسية، فإنّ المصالحة الحالية تقدّم كبير يحمل أملًا بالسعي- على الأقل- لحلّ بعض المشكلات بين البلدين.

ثالثًا: حدود التفاهمات الروسية– التركية حول المسألة السورية

أربك التدخل الروسي في سورية السياسات الخارجية لتركيا على مستويات عدّة، إذ إنّ وجود قوة عسكرية روسية كبيرة في شمالي سورية يعدّ إنذارًا قويًا للتغيير المقبل في الموازين الجيو- استراتيجية بعيدة المدى في المنطقة. إضافة إلى أنّ التدخل الروسي تركيا بالإحباط لأنها كانت تعمل لإطاحة الأسد وإسقاط نظامه، وأنّ فكرة إنشاء منطقة آمنة جنوبي تركيا وجعلها منطقة حظر طيران أيضًا أصبحت صعبة.

إنّ إسقاط تركيا الطائرة الروسية في تشرين الأول/ أكتوبر 2015 لكبح جماح التقدم السوري- الروسي على الأرض، ولا سيّما في ريف اللاذقية، والتمهيد لإقامة منطقة عازلة من جرابلس إلى المتوسط، أتى بنتائج معاكسة للتوقعات التركية. وقد أدت الحادثة إلى ضرب روسيا للخطوط الحمر في بنك الأهداف التي تقصفها في سورية بعدما تجاوزت تركيا، بإسقاط الطائرة، كل الخطوط الحمر الروسية. لذا وجدنا الطائرات الروسية تقصف، للمرة الأولى، مناطق على المعابر التركية مباشرة، وتُقدّم يد المساعدة المباشرة لقوات الحماية الكردية في عفرين على الجبهة التي يبدو أنها قد فُتحت في مواجهة المعارضة التي تدعمها تركيا.

وفي الواقع، فكلتاهما قررت أنّ مفتاح مشروعها يكمن في البوابة السورية، وكلتاهما تدرك أنها غير قادرة على تنفيذ مشروعها ما دامت الأخرى تتصدى له. لذلك، لم ينهر هامش التفاهمات التي استجدّت بين البلدين في إطار عملية فيينا لمستقبل سورية في أواخر 2015، لأنّ العملية أمّنت الوسيلة للبحث مباشرة في مستقبل سورية، مع الاتفاق على ترحيل الخلافات الى حين آخر، بينما يُبنى على أسس الإجماع. وأهم تلك الخلافات هي: مستقبل بشار الأسد في العملية الانتقالية، تعريف مَن هي التنظيمات الإرهابية ومَن هي المعارضة السورية المسلحة المقبولة، والبرامج الزمنية لخروج القوى غير السورية من الأراضي السورية. ومنذ نهاية العام الماضي، تمكّنت موسكو وأنقرة من وضع آلية للتعاون في سورية، من خلال تأسيس لجنة مشتركة لمراقبة الهدنة، متجاوزتين خلافاتهما في الملف السوري ورؤيتيهما المتباعدتين تجاه مستقبل سورية.

مما لا شك فيه أنّ تركيا عانت تراجعًا وتوترًا في علاقاتها الخارجية مع أطراف عديدة، ما دفعها إلى الاستدارة، فقد اعتذرت من روسيا وطبّعت علاقاتها مع “إسرائيل”. وروسيا المحاصرة بالأطلسي ومشروعاته الزاحفة في مجالها الحيوي، والتي تنوء تحت عقوبات غربية مؤلمة، وصعوبات اقتصادية، لا تريد التورط في المستنقع السوري، وتستعجل حلًّا يحفظ مصالحها في سورية. فهل تكفي هذه الأرضية لتحقيق اختراق سياسي يبدّل في مواقف الدولتين تجاه المسألة السورية؟ وهل نجحت المساعي التركية لتطوير التفاهمات؟

لقد سعى الرئيس إردوغان، في أثناء لقائه بوتين في موسكو يوم 9 آذار/ مارس الماضي، لتطوير التفاهمات مع بوتين حول الملفّ السوري، ولا سيّما في عقب التطورات الميدانية في مدينتي الباب ومنبج ومحاولة الحصول على ضوء أخضر روسي بتوسيع عمليات (درع الفرات) إلى مناطق جديدة، والحدّ من نفوذ (داعش) والوحدات الكردية المدعومة من واشنطن في شمالي سورية. وتركز البحث أيضًا حول جهد التوصل إلى حل سياسي، وتقويم نتائج اجتماعات جنيف والأستانة، وإعطاء دفعة جديدة لاتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته موسكو وأنقرة. وطلب إردوغان من بوتين التعاون من أجل إخراج المسلحين الأكراد من مدينة منبج، وتعزيز التنسيق لمنع الاشتباك على حدود المدينة، التي باتت محاطة بقوات نظامية تابعة لجيوش تركيا وروسيا وأميركا والنظام السوري والمليشيات الشيعية وقوات (درع الفرات).

إنّ الأولوية التركية في المسألة السورية مبنية على مصالحها، وعلى أمنها القومي الذي بات مهدّدًا بعد إقامة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) في سورية كانتونات كردية في الشمال السوري، مدعومًا من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية، ومن ثمّ، فإنّ تركيا تريد من روسيا وقف دعمها له.

وفي المقابل، فثمة عوامل تستبعد ما يمكن وصفه التحاقًا بالسياسة الروسية، لدولة تقوم أهميتها الاستراتيجية على كونها جسرًا بين أوروبا وآسيا. إضافة إلى أنّ المؤشرات لا تعطي صورة واضحة عن إمكان الاتفاق التام بين أنقرة وموسكو حول سورية، ولكن هذه المؤشرات تؤكد أيضًا أنّ الملف السوري لن يُفسد ملامح الانفراج الواضحة بين البلدين.

ولا شكّ في أن إطلاق عملية (درع الفرات) في 24 آب/ أغسطس 2016، لم يكن من دون المقايضة التي جرت بين الرئيسين، إردوغان وبوتين، مقابل تخلّي الأتراك عن المجموعات المسلحة في معركة حلب وسحب أكبر عدد منهم نحو جرابلس. وفي العمق، فقد أراد كل طرف استخدام الآخر لتحقيق إستراتيجيته تجاه المسألة السورية، إذ كانت موسكو تهدف من سياسة الجزرة مع تركيا إلى ضبط الحدود والتعاون ضد الفصائل المسلحة والانسحاب العسكري من معركة حلب، فيما راهنت أنقرة على أنّ التقارب الاقتصادي والسياسي مع موسكو قد يدفع الأخيرة إلى التجاوب مع سياستها تجاه المسألة السورية، وربما التخلّي التدريجي عن رأس النظام السوري، خصوصًا أنّ موسكو قالت -مرارًا- إنها ليست متمسكة بالنظام، بل بوحدة الأرض السورية، والمحافظة على بنية الدولة.

لقد بدا أنّ التفاهمات السابقة بين الجانبين محدودة، إذ سرعان ما كشفت التطورات الميدانية على الأرض حدودها، فبدا أنّ روسيا تريد أن تكون عملية (درع الفرات) محدودة، وأن تقف -بصورة أدق- عند أبواب مدينة الباب، وجاء استهداف الجنود الأتراك ومقتل أربعة منهم في غارة، قيل إنّ طائرات روسية أو سورية نفذتها، في منزلة رسالة روسية واضحة حول الحدود المسموح بها للعملية التركية في نظر الروسي، بما يشي أنّ ثمة تفاهمًا جرى بين روسيا وإيران والنظام السوري، بخصوص حدود التوغل التركي ولأهداف محدّدة. ومن جهتها، فإنّ استراتيجية تركيا باتت مختلفة تتمحور حول الحفاظ على أمنها القومي، والحؤول دون ولادة كيان كردي مستقلّ على حدودها الجنوبية، والاستثمار في عملية (درع الفرات) لتأمين نفوذ لها في سورية.

ولكن، منذ لقاء قادة أركان أميركا وروسيا وتركيا في أنطاليا، يومي 7 و 8 آذار/ مارس الماضي، واتضاح الموقف الأميركي من عملية تحرير الرقة من تنظيم (داعش) بالاعتماد على قوات سورية الديمقراطية، والتشديد الروسي على ضرورة تسليم المدينة إلى النظام السوري بعد تحريرها ضمانًا لاستقرارها، وفشل اللقاء في تنسيق جهد الأطراف الثلاثة للتقدم نحو الرقة، ولكن أمكن التوصل إلى تفاهمات حول تقسيم سورية إلى قطاعات محدّدة للأطراف الثلاثة، وإعلان “قوات سورية الديمقراطية”، في 4 آذار/ مارس الماضي، عن توصّلها إلى اتفاق مع النظام السوري لتسليمه مدينة منبج. إزاء هذه التطورات بدأت تركيا تتساءل هل عملت القوات الروسية على تسهيل استلام قوات الأسد لمدينة مبنج، ومن ثمّ، على تقليص منطقة النفوذ التركي؟

في خضمّ هذه التناقضات، فإنّ القراءة التركية عادت إلى التشكيك في الموقف الروسي، فروسيا تعلم ما إذا كان يوجد اتفاق بين “قوات سورية الديمقراطية” والبنتاغون أو لا يوجد، لأنّ أميركا تنسّق تحركاتها مع روسيا، إضافة إلى أنّ المليشيات الكردية التابعة لحزب (الاتحاد الديمقراطي)، لا تُخفي مواقفها وتحركاتها العسكرية عن الروس، فهل أخفت روسيا عن تركيا هذه الاتفاقات؟

إنّ الوضع العسكري في سورية، وخاصة حول مدينة منبج، كان أحد الموضوعات في مباحثات الرئيس إردوغان في موسكو، فقد بات مصير منبج والرقة المسألة الرئيسة في السياسة الإقليمية.

وهكذا ازداد المشهد تعقيدًا، مع اقتراب التحضيرات لمعركة الرقة وسط الخلافات الدولية على السيطرة على مدينة منبج، حيث دعا نائب رئيس الوزراء التركي، نعمان قورتولموش، الولايات المتحدة وروسيا، للاختيار بين تركيا و”حزب الاتحاد الديمقراطي”: “على الولايات المتحدة وروسيا أن تقررا، هل ستُفضّلان 3 إلى 5 آلاف مسلّح من تنظيم الاتحاد الديمقراطي، على الدولة التركية ذات الـ 80 مليون نسمة، وتتمتع بالاستقرار وتمتلك أكبر جيش في المنطقة؟”.

وعلى الرغم من تعقّد المشهد، يُمكن للتفاهم الروسي- التركي، في حال تحققه، أن يلعب دورًا مهمًا في إنهاء المقتلة السورية. ويعود السبب في ذلك إلى النفوذ الكبير الذي يملكه الروس والأتراك لدى أطراف الصراع السورية والإقليمية، وبخاصة مع ظهور ما يشبه حالة إجماع دولي وإقليمي على وجوب إنهاء الأزمة التي شملت أضرارها الجميع بدرجات متفاوتة. ولكنّ النجاح الفعلي مرهون بتوافر عوامل عدّة: أولها، وضع حد للتدخل العسكري لإيران وميليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية؛ وثانيها، استمرار التباين في الأجندة الروسية والإيرانية؛ وثالثها، دخول الولايات المتحدة الأميركية بثقلها على الخط لدعم الاتفاق وترسيخه؛ ورابعها، التحوّل في مفاوضات جنيف إلى التركيز على سلة الانتقال السياسي مقدمةً للسلال الأخرى؛ وخامسها، إعادة المعارضة السورية النظرَ في أوضاعها، والاتجاه نحو تفعيل دور السوريين في تقرير مصير بلدهم.

رابعًا: معوّقات التقارب الروسي- التركي 

مع تركيز تركيا على ما يجري في سورية، يُمكن لموسكو أن تُبقي تركيا معلقة، وذلك بالاستمرار في دعم الانفصاليين الأكراد، وتعقيد أي خطط عسكرية تركية في سورية، من خلال تعزيز الحضور العسكري الروسي في ساحة المعركة، وعدّ موسكو الأكراد السوريين حلفاء محتملين، وخاصة بعد أن سمحت موسكو لأكراد سورية بإنشاء مكتب تمثيلي لهم في روسيا. يُضاف إلى هذا شنَّ سلاح الجوّ الروسي طلعات أسهمت في تقدم السوريين الأكراد في مناطق نفوذ (داعش) والسيطرة على مزيد من الأراضي على الحدود التركية، عين العرب (كوباني)- عفرين وصولًا إلى غرب الفرات.

زيادةً على أنّ تعاظم النفوذ الروسي في الفناء الخلفي التركي، أي في منطقة البحر الأسود والقوقاز والشرق الأوسط الكبير، يُظهر تقلّص النفوذ التركي، ما يحدّ من فرص شراكة فعلية بين أنقرة وموسكو.

وهكذا تبرز معوّقات عديدة أمام ديمومة التقارب، من أهمها:

أ- الموقع الجغرافي والاستراتيجي لتركيا

إنّ التموضع الاستراتيجي لأي بلد، وتحديد المخاطر التي تحيط به، يأتي عبر تجارب تاريخية تمتد لعقود وربما لقرون. من هنا، فإنّ تحديد تركيا أعداءها والجهات التي تأتي منها التهديدات الاستراتيجية، وليست الآنية، تجعل من روسيا وإيران والأرمن واليونان والأكراد، من بين مصادر التهديدات الاستراتيجية. وعليه فإنّ خيارات تركيا، السياسية والحضارية والأمنية، هي التي وفّرت لها بعض المكتسبات الديمقراطية والتشريعية التي لن تجدها في (منظمة شنغهاي)، ولا في موسكو أو بكين. وهذا الخيار هو الذي صدّ ويصدّ عنها المخاطر في ضوء حاجة الغرب إلى تركيا في صراعه مع روسيا وإيران. ومن ثمّ، فإنّ حدوث انعطافة تركية جذرية معادية للغرب وأميركا لمصلحة العلاقة مع روسيا و(منظمة شنغهاي) غير مُحتمل، لأنه يتطلب قرارًا استراتيجيا تركيًا كبيرًا، له مخاطره الجمة.

ب- تداخل مناطق النفوذ

لدى تركيا وروسيا مجالات متداخلة من النفوذ في منطقة البحر الأسود، وأجزاء من الشرق الأوسط والقوقاز وآسيا الوسطى. وفي الظروف الجغرافية السياسية الحساسة، كان الشرق الأوسط منطقة اصطدام بين تركيا وروسيا. وكان لتركيا أيضًا نشاطها المعادي لروسيا، سواء من خلال دعم العناصر الشيشانية المناوئة لها، أم من خلال المساعي لتوطيد العلاقات مع الدول الناطقة بالتركية جنوبي روسيا (أذربيجان وأوزبكستان وكازاخستان وقيرغيزيا وتركمانستان)، وهي المساعي التي طالما نظرت إليها موسكو بكثير من القلق. إضافة إلى الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، حيث تقف موسكو مع حليفتها أرمينيا، وشريكتها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، في حين أنّ تركيا تقف مع حليفتها أذربيجان. وقد نشرت صحيفة (موسكوفسكيكومسمولتس) الروسية في 24 آذار/ مارس 2017 مقالة بعنوان (بوادر خلاف جدي بين بوتين وإردوغان)، ورد فيها أن “تركيا أعلنت في 18 آذار/ مارس أنها لن تعترف بضمّ جزيرة القرم إلى روسيا، لأنّ ذلك انتهاك للقانون الدولي، وستستمر في تقديم الدعم للسكان التتار ذوي الأصول التركية في الجزيرة”. ومن جهة أخرى، “حدث في أستانة ما يعكّر مزاج الروس، بدعم من تركيا، فوفد المعارضة السورية المسلّحة لم يحضر إلى الجولة الثالثة من محادثات أستانة”. وحتى الآن، يتظاهر الرئيس بوتين بأنّ الأمور جيدة في العلاقات مع تركيا، ولكنّ النار مشتعلة بين البلدين، ويمكن تأجيجها بأي ذريعة صغيرة.

     ج- انتماء تركيا إلى حلف الناتو

كانت تركيا خلال مرحلة الحرب الباردة خطّ المواجهة الأطلسي الأول مع الاتحاد السوفياتي، وقد أدركت روسيا أنّ تركيا أرادت تحقيق حزمة من الأهداف بضربة واحدة من خلال إسقاطها الطائرة الروسية، أبرزها توجيه ضربة معنوية للرئيس بوتين، واستدراج موسكو إلى مواجهة تتجاوز جبهتها الميدان السوري، والأهم هو وضع حلف (الناتو) أمام واقع جديد يدفعه إلى القبول بخطة الرئيس إردوغان الهادفة إلى إقامة منطقة آمنة عازلة من جرابلس إلى البحر المتوسط.

    د- إحباط الروس للمنطقة الآمنة التركية

بدلًا من نجاح تركيا في فرض منطقة تركية عازلة على الحدود مع سورية، تمكنت روسيا من إقامة هذه المنطقة لتصبح منطقة عازلة روسية، بعد قرار موسكو نشر وتفعيل منظومات صواريخ (إس 300) و(إس400) على الأراضي السورية، إضافة إلى تسيير طائرات مقاتلة لمواكبة العمليات الجوية. وهذا ما عبّر عنه قائد الوحدات العسكرية الروسية التي تمركزت بالقرب من عفرين، أندريه فولكوف، الذي لم يتردد في تأكيد أهمية الوجود العسكري الروسي المباشر في المنطقة “كي يكون العلم الروسي مرئيًا، وكي يفهم الجميع أننا ندعم الحكومة السورية وقواتها المسلحة، وأنّ وجودنا في هذه المنطقة هو لضمان السلام والأمن في المنطقة الحدودية”.

     ه- الشك التركي في الموقف الروسي من الأكراد

الآن، وقد حصلت تركيا على بعض ما ترغب فيه، ولم يبقَ إلا المعركة الكبرى في الرقة، تلك التي تتطلب جردة حساب دبلوماسية وعسكرية، فمن غير المعقول أن يبقى “الجيش الحر” و”جيش النظام”، ومن خلفه مليشيات إيران و”قوات سورية الديمقراطية”، في مكان واحد، وعلى جبهة واحدة، من دون أن تُجبر روسيا وتركيا على إعادة النظر في الحلف الذي أُسِّس في غفلة من اللاعبين الكبار. خاصة بعد أن عاد الحديث عن التحالف الكردي- الروسي، حيث استقبلت روسيا زعيم (حزب الشعوب الديمقراطي) الكردي التركي قبل الاستدارة التركية نحو موسكو، بعد أن فتحت دفاترها القديمة، لتعود الورقة الكردية خيارًا استراتيجيًا في المواجهة الشاملة مع الغرب، تمامًا كما كان الوضع في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، عندما كان دعم موسكو لحزب العمال الكردستاني جزءًا من الحرب الباردة لضرب الخاصرة الشرقية لحلف (الناتو).

ويأتي نشر قوات روسية مؤخرًا في منطقة عفرين، التي يمثّل الأكراد أغلبية سكانها، لمنع صدام محتمل بين “قوات سورية الديمقراطية” مع القوات التركية أو “الجيش السوري الحر”، وليؤكد الموقف الروسي المتعاطف مع الطموحات الكردية.

وكان الناطق باسم وزارة الخارجية التركية، حسين مفتي أوغلو، قال في 22 آذار/ مارس “إنّ الخارجية التركية استدعت القائم بالأعمال الروسية في أنقرة على خلفية مقتل جندي تركي بنيران أُطلقت من مناطق سيطرة ميليشيا وحدات من الجانب السوري”، وأضاف “إنّ سبب استدعاء القائم بالأعمال الروسية جاء بعدِّ روسيا مسؤولة عن مراقبة انتهاكات وقف إطلاق النار في تلك المنطقة”، أي مدينة عفرين شمالي سورية، وأكّد “أنّ المسؤولين الأتراك نقلوا أيضًا الموقف التركي للقائم بالأعمال الروسي من انتشار عناصر من الجيش الروسي في عفرين”.

خامسًا: تركيا تلعب في الوقت الضائع

الصفقة (الحالمة) المطلوبة روسيًا من الأتراك تتطلب انزياحًا في الموقع التركي، والانتقال بالهضبة الأناضولية من حلف (الناتو) إلى مشروع (الأوراسيا)، وهو انزياح يتعارض مع متطلبات هذا الموقع كما ظهرت خلال الحرب الباردة، وما بعدها، فضلًا عن أنّ قرارًا استراتيجيًا من هذا النوع، وتحدّي أميركا والغرب، يتطلب قرارًا تركيًا تاريخيًا.

ويبدو أنّ الثوابت التي حكمت موازين القوى الدولية ستستعصي على الرئيس إردوغان، حتى لو أراد الاتجاه شرقًا، فهو يعلم حدود حركته وقدراته كلاعب إقليمي في مواجهة أقطاب دولية، لكنه يريد أن يبعث رسائل للغرب مفادها أنّ لديه خيارات أخرى، وأنّ التقارب مع روسيا يوسّع هامش المناورة التركية في قضايا التماس التركي- الروسي في سورية.

خاتمة

كلا المشروعين، التركي والروسي، مستقلٌّ وقائمٌ بذاته، ليس بالضرورة أن يتكاملا ولا أن يتواجها –ليس الآن على الأقلّ- على الرغم من بعض نقاط التماس بينهما في القوقاز وبعض الشرق الأوسط. فالأخطار المحدقة بالمشروعين لا تتأتّى من أحدهما ضد الآخر، والقيادتان الحاذقتان تدركان هذا خير إدراك. الخطر الكبير، والذي يكاد أن يكون شبه وحيد، على كلّ من المشروعين يأتي من الغرب (أوروبا وأميركا)، الخصم الحقيقي المشترك للدولتين معًا. خطر هذا الغرب يأتي من خوفه من استقلال موسكو وأنقرة باستراتيجيتيهما وتحولهما إلى مركزي قرار خطِرين بكل ما تملكانه من قوة كامنة: روسيا بقوة الطاقة الاستراتيجية وترسانة السلاح الكبيرة، وتركيا بقوتها التاريخية والجغرافية والجيوسياسية المدعومة باقتصاد شاب طموح.

وعلى دينامية الترويض كانت العلاقات الروسية- التركية تتجاذب خلال الأشهر الماضية، ومن المتوقع أن تصل إلى نتيجة واضحة عندما تتوضح استراتيجية الإدارة الأميركية الجديدة تجاه الشرق الأوسط. وإلى ذلك الحين، فإنّ المرحلة الجديدة للعلاقات بين روسيا وتركيا ستعكس مدى براغماتية الرئيسين، إردوغان وبوتين، بصفتها (البراغماتية) مدخلًا لتحقيق المصالح المتشابكة بينهما. بالطبع، ستحاول موسكو الحصول من إردوغان على أقصى ما يمكن من مكاسب سياسية واقتصادية، وربما جيوسياسية أيضًا؛ فلدى الروس تصوّر أنّ الرئيس التركي ليس في القوة السابقة، خاصة بعد الانقلاب الفاشل. وربما ستكون العــلاقات المستقبلية بين روســـيا وتركيا محكومة، بدرجة ما، بصيغة مفادها “أنّ توتر العلاقات التركــية- الغربية، يزيد بالضرورة من تقارب أنقرة مع موسكو”.

ويبقى السؤال: هل تمثّل الشراكة مع روسيا والتوجه نحو آسيا الوسطى منعرجًا استراتيجيًا في مسار الدولة التركية؟ أم أنّ الأمر يتعلق بخطوات تكتيكية ظرفية فحسب، اقتضتها تأثيرات المسألة السورية بخصوص الأمن الحيوي التركي، خصوصًا ما يتعلق منه بالموضوع الكردي؟




المصدر