التغريبة السورية في وثائقي أرجنتيني – دنماركي


لأن فكرة فيلمه تكررت في وثائقيات سبقته، نحا المخرج الأرجنتيني هيرنان زين في مقاربته الجديدة عن معاناة الأطفال السوريين في زمن الحرب والهجرة، نحو الجماليات والتفرد عبر تكريس وجودهم كاملاً على الشاشة، ليكونوا هم المركز وبقية الشخصيات هامشاً، مع تركه مساحة مهمة للصورة لتقول أو تكمل ما قالوه أمام عدسات كاميرته، وبدوا خلالها وكأنهم يخاطبون أنفسهم بصوت عالٍ.

صار الفيلم الأرجنتيني- الدنماركي المشترك «ولد في سورية» صوتاً لهؤلاء الأطفال يعبرون فيه عن مشاعرهم ويسردون قصصهم وتجاربهم خلال حرب لم تنته فصولها بعد، عاشوا تفاصيلها وما زالوا يعيشون آثارها سواء كانوا داخل البلاد أم خارجها.
ومع أنه يواكب مسيرة بعضهم في دول أوروبية حتى أشهر قريبة فإنه أراد التذكير بمصدر معاناتهم، فمر سريعاً على تسجيلات تذكر بزمن الهجرة السورية العظيمة وكيف خرجوا من بلادهم نحو المجهول وقادتهم الأقدار إلى أرض وديار غريبة لكل واحد من شخصيات فيلمه، وكلهم دون سن الـ14، تجربة مختلفة فيها وإن تشاركت في جذورها. ومع هذا لم يرغب صانع الشريط في إعادة مشاهد الخراب والدمار التي لحقت بأمكنتهم وبذلك ابتعد عن التكرار والاستهلاك وركز على صورة جديدة رسمها الأطفال بأنفسهم.

كل حكاية تكمل الأخرى وتنسج بمجموعها مشهداً لطفولة مغيبة. «لقد نضجنا مبكراً»… جملة قالها أكثر من طفل، كلٌ بطريقته الخاصة، ومنها راح الوثائقي يلوج في تفاصيل حيوات حزينة سردت معاناتهم بلغة «طفولية»، البراءة (على رغم النضج المبكر) عنوانها الأسطع. حكى بعضهم ما عانوه في رحلتهم المحفوفة بالأخطار والموت من سورية إلى تركيا مروراً باليونان وشرق أوروبا وصولاً إلى النمسا وألمانيا وبلجيكا، وفي الأخيرة توقف مطولاً لإدراكه غيابها أو ضعف وجودها في المشهد الإعلامي الغربي الخاص بالحرب الأهلية السورية.

قبلها معظم الوثائقيات السينمائية والتلفزيونية، ركزت على دول بعينها لكن هذه المرة يذهب الوثائقي إلى مكان مختلف نسبياً، تجربة الأطفال السوريين في مخيماته لا تشبه غيرها، وبهذا أضاف فصلاً جديداً إلى فصول «التغريبة السورية».

اللافت في كلام الأطفال؛ المرارة والحسرة، وغياب الفرحة بالخلاص، لأن كل واحد منهم ما زال يشعر بنقص ما في حياته، غالبيتهم يحنون إلى يوم يجتمعون فيه مع بقية أفراد عائلاتهم في المكان الجديد. قصص الأطفال تشير إلى عمق المشكلة وصعوبة التجاوز والتكيف مع المجتمعات الجديدة. فالسوريون في بلجيكا يواجهون صعوبة لم شملهم بأسرهم التي ظلت في سورية أو مدن أخرى خارجها. أحوالهم في مكانين متباعدين تقلق حياتهم وتنغص عيشهم وتبطئ من سرعة اندماجهم. تراهم يفكرون ليل نهار بإخوتهم وبأمهاتهم وحاراتهم وأصدقاء طفولتهم. يواجهون صعاب التأقلم بوجود العنصرية والتمييز ويحنون إلى المكان الذي لا يقول لهم أحد فيه؛ من أين أنت؟ ولماذا جئت إلى هنا؟

كل قصة فيها ارتباط بمشكلة سورية كبيرة، تصل إلينا عبر محادثات تلفونية لا تنقطع. فالهاتف المحمول صار وسيلتهم الوحيدة للتواصل في ما بينهم وبالنسبة إلى المشاهد صار وسيلة التواصل مع أطراف لا يراها أمامه، فالوثائقي التلفزيوني «ولدَ في سورية» تعمد تغييبهم أو تقليص حضورهم على الشاشة لأقصى درجة! أراد من خلال أحاديثهم نقل مشاعرهم كما هي وبالتالي تلمس معاناة الطرف الثاني عبرها.

في لبنان مثلاً، يعاني السوريون من صعوبة الحصول على عمل، فتراهم عاجزين عن الالتحاق بمن سبقهم. طول فترة الانتظار يفكك العلاقات ويربك سياقاتها الطبيعية وقد يحرص الوثائقي، المعروض على القناة التلفزيونية السويدية، على تجسيدها بكل تفاصيلها كونها جزءاً من المشكلة الأساس؛ الهجرة وزمنها الملتبس. وعلى رغم محاولة نسيان تفاصيل الهروب تظل الذاكرة تصرّ على استرجاعها والحياة في المنافي تغذيها فيجد الأطفال أنفسهم بسببها يعيشون في مناخ نفسي صعب، اعتنى الفيلم بنقله وتسجيل تداعياته ومع سوداويته أشار إلى قوة الواقع العام وقدرته على جرهم إلى صفه وإن عادت الذاكرة لتواجهه بعنادها، لكن الحياة في النهاية لها الكلمة الفصل.

حاول الأرجنتيني تجسيد ذلك سينمائياً من خلال ربطه حكاية كل طفل بالتحولات الخاصة به، وجلها يشير إلى مسيرة مؤلمة، ظن الناس أنها في طريقها إلى التواري، لكن تواريخ مَشاهَد الوثائقي جديدة العهد كلها تقريباً تؤرخ أحداثاً جرت في نهاية العام الماضي، تقول العكس تماماً. فآلاف العائلات ما زالت مشتتة وحتى متباعدة في البلد الأوروبي الواحد لإشكالات قانونية وبيروقراطيات إدارية، تُصعب عملية الانتقال والإقامة من مدينة إلى أخرى وأن القرار الأوروبي غير المعلن بإغلاق الحدود قطع كل أمل بوصال الأطفال مع من يحلمون بلقياهم وحتى اللحظة ما زال السياسيون يختلفون في مواقفهم من الهجرة السورية، فيما يراقب وبانتباه شديد الأطفال كل ما يجري حولهم، يخزنون صوره في دواخلهم وحين ينطقون تجد المرارة والحزن تغلف كلماتهم. فالهجرة بالنسبة إليهم بدأت قريباً لكن نهايتها السعيدة المرتجاة تبدو بعيدة المنال، فمن «ولد في سورية» وعاش تجربة حربها المروعة وجرب تغريبتها القاسية طفلاً لا يمكنه التخلص من آثارها بسهولة… هكذا قال لنا الوثائقي التلفزيوني وصدمنا بحقائق ظننا للحظة أنها انتهت أو تباعدت.



صدى الشام