تمثيل داخل تمثيل

16 أيار (مايو - ماي)، 2017
6 minutes

غسان الجباعي

يُعدّ فن التمثيل من أصعب وأعقد الفنون التي أبدعها الإنسان، ليس من حيث الأداء فحسب؛ بل من حيث التعريف والخصائص أيضًا. ثم إنه فن إشكالي في معناه وفي طبيعته البشرية؛ فهو سهل ممتنع، واضح غامض، بسيط مركب وشديد التعقيد… وهو -وقبل أي شيء- فن تورية ومجاز: أن تمثل يعني ألّا تمثل، أو كما قال قسطنطين ستانسلافسكي المؤسس الأكاديمي لهذا الفن: “أن تكون حقيقيًا في ظروف غير حقيقية” أي في ظروف نصنعها نحن: (ديكورات، ملابس، إضاءة، مكياج، منصة…) ونؤمن بها، ثم نتصرف بصدق، كما لو كنا نعيش الحياة!

“قمة الصدق”، في التمثيل، يجب أن تكون “قمة الكذب”! أي أن تكذب كي تكون مقْنِعًا! والكذب -هنا- ليس أخلاقيًا، بل مهنيًا. وهذا ما نطلق عليه مصطلح “الصدق الفني” أو “الإيهام”، وجعل اﻵخر –المشاهد- يتورط في لعبتك ويصدق ما يراه ويسمعه، كما لو كان حقيقة لا شك فيها؛ لهذا -ربما- يخلط الناس بين التمثيل والكذب!

لقد عدّ معظم الباحثين العرب اسم “ممثل” المشتق من فعل: (مثَّل، يمثّل تمثيلًا) غير دقيق، واقترحوا أسماء أخرى مثل: مؤدي، مجسّد، متقمّص، مقلّد، أو مصوّر…إلخ، لكن هذه المسميات لم تثبت مع الزمن، وهي، في كل الأحوال، ليست صحيحة أو معبرة عن جوهر فن التمثيل.

في القرن التاسع عشر، في إبان المشروع النهضوي العربي، أطلق المسرحيون على الحكواتي اسم الممثل، وكذلك المشخّص أو “المشخّصاتي”، وهو في الأصل اسم المخايل (الذي يحرك العرائس في مسرح خيال الظل). وقد أسسه شمس الدين بن دانيال، في العصر المملوكي، أي قبل تلك النهضة العربية بستة قرون على اﻷقل. وإذا كان هذا الاسم مناسبًا لمصمم العرائس ومحركها، لأنه يؤنسنها ويجعلها تشخص عبر الشاشة، فهو غير مناسب أبدًا لفن الممثل الإنسان الذي يشخص أمامنا بلحمه ودمه وأعصابه ومشاعره. أما المقلد أو المؤدي أو المجسّد، فهي أسماء توحي بالاعتماد على تقنية الجسد وحركاته: “الرقص، السيرك، والأكروبات”. وفن التمثيل لا يعتمد على الرشاقة والتقنية البدنية والاستعراض، ولا على التقليد المتقن فحسب، بل يعتمد كذلك على الروح والأحاسيس والعوالم الداخلية.

قد يكون التقمص هو أقرب المفاهيم لمهنة الممثل (الدخول في جلد الدور، أو قميصه) لو لم يكن مفهومًا غيبيًّا غامضًا، يشي بنظرية “الحلول” عند الصوفية، وهو حدث ميتافزيقي يأتي من خارج الجسد “ويحلّ” فيه عنوة، من دون إرادة من صاحبه؛ ما يجعله خارج دائرة الإبداع البشري. أما الحكواتي فهو يعتمد على الحكي “الصوت”، وهو لذلك أقرب إلى فن الخطابة والإذاعة والتصويت “الدوبلاج”، منه إلى فن التمثيل الذي يُعَدّ الصوت أحد عناصره المهمة.

فما هو فن التمثيل إذًا، وما هي السمة الأنسب لتعيينه؟

في اللغة الإنكليزية يطلقون على الممثل اسم Actor، أي: الفاعل، وهي مأخوذة من Act، Acton، وهذا أقرب إلى الصواب، لأن الممثل ليس خطيبًا يقف على المنصة ليتكلم، ولا بهلوانًا يستعرض قدراته الجسدية، ولا مقلدًا أو متقمصًا تتلبسه الحالة! إنه شخص “يفعل” أو “يعيش” على الخشبة، مجموعةً من الأفعال (الفزيو/ سيكولوجية التي تقود إلى هدف محدد)، وهي أفعال ليست جسدية صرفة، ولا نفسية منفصلة عن الجسد، بل متظافرة متراكبة ومتّسقة معه، في فعل مسرحي واحد: (خوف، شوق، أمل، غدر، خيبة، انتظار، مواجهة، حب، خيانة…إلخ). وحدة الفعل هذه لا يجسدها إلا “الفاعل” بكيانه كله، وبما يختزنه من معرفة وتقانة بدنية وروحية: مشاعر وأحاسيس وحضور ورهافة وذاكرة انفعالية وخيال…

وإذا كان لكل فن أداة وموضوع ومادة، يستخدمها المبدع في إبداعه؛ وهي مستقلة عنه تمامًا، مثل: الريشة والألوان في فن الرسم، والقلم والأوراق في فن الكتابة والآلة في فن الموسيقى… فالممثل هو المبدع الوحيد الذي يكون فيه هو الأداة وهو المادة وهو الموضوع معًا.

لكن ماذا يعني هذا كله؟ هل التمثيل هو فن الإتقان والمهارة والجمال؟ سواء كان فعلًا أو تقمصًا أو تجسيدًا؟ والجواب: نعم، هو كذلك، مثل أي فن آخر، لكن كي نميزه من بقية المهن الحرة التي تُعنى بالجمال، ولا تخلو من المهارة (النجارة والحدادة والخياطة والحلاقة)، فلا بد أن نضيف إليه المعنى أو الغاية، فما هو جوهر فن التمثيل، وما هي الغاية منه؟

لو تأملنا في ذلك مليًا، لاكتشفنا أن المدهش والممتع في الممثل، هو قدرته على عرض أفعال ومشاعر إنسانية محددة (سلوك/ فعل)، وواقعية بالتأكيد. والموهوب من الممثلين هو ذاك الذي يملك القدرة على خلق وإعادة إنتاج شخصيات وأنماط بشرية حقيقية، لا حدود لها؛ ينبشها من خزانة ذاكرته الانفعالية، ويجسدها أمامنا، بإتقان ساحر، مضيفًا إلى النماذج البشرية التي نعرفها أنموذجًا جديدًا: (طبائع نموذجية، في ظروف أنموذجية).

إن عجز الكتاب العرب -بعامة- عن إنجاز طبائع أنموذجية؛ أي شخصيات واقعية، ولجوئهم إلى الشخصيات/ الأفكار، أو الرموز المجردة، كان من أهم الأسباب التي أدت إلى فشل فن التمثيل، واعتماده بشكل كبير على “الكليشيهات” المعروفة، والشكلانية الخالية من الإبداع.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]