السلمية مدينة التعايش الحقيقي… والمجزرة


ميسون جميل شقير

تستفيق مدينة السلمية السورية على طعم المجزرة، تتلمس وجوه الضحايا ومكان السكاكين في رقابهم، وهي تعرف أن عليها أن تكون كبش فداء لنظام، تكشفت بالأمس ملامح جديدة له حين اكتشف هذا العالم الأعمى محرقة سجن صيدنايا الشبيهة بهولوكست النازية، وسقطت عن النظام آخر أوراق التوت، لذا كان لا بدّ للغربان السود أو لتلك الفزاعة المفتعلة التي حملت اسم (داعش) أن تنفذ، تحت راية التطرف الإسلامي، مجزرة جديدة بأهالي المدينة التي هي من أهم المدن السورية، وشكلت على مدى قرون منارة علمية ومعرفية وشعرية حقيقية، واستطاعت بكل المقومات التاريخية التي تمتلكها من أن تتحول إلى استثناء، في عدد المتعلمين والمبدعين قياسًا على عدد سكانها القليل.

السلمية السورية هي المدينة التي تشكل الجسر الإنساني والجغرافي الواصل بين البادية السورية والمدن، بين البدو والحضر، بين الماضي والحاضر، إنها المدينة السورية صاحبة الوجه الروماني والصوت العربي، المدينة الحديثة، والطاعنة في القِدم، مدينة الفلسفة والتصوف، وهي المدينة التي كلما أتيتها، ستلاقيك دائمًا كأنها تلاقيك أول مرة، وستحتفي بك بالدهشة نفسها والألفة نفسها والحب نفسه، ستمنحك ضحكتها كلها، وستدعوك فورًا أن تقيم في قلب أهلها الطيبين.

يتميز مجتمع السلمية الطيب والمكافح، بالانفتاح الحقيقي، وبحبه وقبوله للغريب وللمختلف الذي يسكن فيه، وتتميز أيضًا بقبول الزواج الذي قد يتم بين حبيبين، أحدهما من الطائفة الإسماعيلية الكريمة -وهي تمثل النسبة الأكبر من عدد السكان- والآخر من المسلمين السنة الذين يسكنون فيها ويتوزعون بين المدينة وريفها، أو أن يكون أحدهما من الطائفة العلوية التي تتواجد أيضًا في منطقة السلمية وريفها، وقد أنتج هذا الانفتاح حالة رائعة من التعايش الحقيقي والعميق، بين كل الأديان والطوائف التي تسكن منطقة السلمية، ولعل هذا التعايش جاء نتيجة لارتفاع مستوى التعليم فيها، حيث نال التعليم في سَلَمية حظوة خاصة لدى أهلها الذين اشتهروا بثقافتهم وشغفهم بالمعرفة. فمنذ بدايات القرن العشرين، كَفَل صندوق الطائفة الإسماعيلية مؤسستي التعليم والصحة؛ وهذا ما ساعد في انتشار المدارس فيها حتى قبل انتشار التعليم الرسمي في سورية بعدة عقود. ولعل المدرسة الزراعية التي تأسست عام 1911 كانت تعد أول مدرسة ابتدائية زراعية في بلاد الشام. ومن المهم أن نعرف أنه كان شرط التعليم في تلك المدارس، حينذاك، هو المساواة الكاملة بين الذكور والإناث، والمغالاة المبكرة بالاهتمام والإصرار على تعليم المرأة الذي وصل إلى تفضيل تعليم البنت على الولد إذا كان الأهل لا يستطيعون تعليم سوى واحد منهما، وهذا ما جعل الحالة المجتمعية التعليمة حالة رائدة ومتفردة منذ ما يزيد على مئة سنة، وقد خلفت السلمية أسماء كثيرة، شكلت منعطفات وقامات في الثقافة السورية، ومن أعلام الشعراء: محمد الماغوط، وفايز خضور، وعلي الجندي،، ومن المفكرين: عارف تامر، ومصطفى غالب، وإبراهيم فاضل، ومحمود أمين، وسامي وعاصم الجندي وحسين الحلاق. وقد حازت المدينة، بجدارة، على لقب بلد الألف شاعر.

إن من يعرف السلمية يعرف عشق أهلها الحياة، وابتهاجهم بها، فعلى الرغم من حالة الفقر المادي العامة في المدينة، امتلك سكانها دائمًا، روح الدعابة والفرح، حتى إنهم أطلقوا على مدينتهم السلمية تسميتهم الخاصة وهي مدينة “الفقر والفكر والكفر”، وقد عاشت المدينة مع هذه الروح حالة التعايش الرائعة حتى في ما يخص الاحتفالات الدينية لمجتمع مدينة السلمية، فكل الأعياد هي أعيادهم، ودائمًا يحتفلون بها كأنها طقسٌ خاصٌ بهم وحدهم، تبدأ احتفالاتهم من ميلاد السيد المسيح إلى رأس السنة الميلادية، وعيدي الفطر والأضحى وحتى عيد النيروز، ليست الحياة فحسب هي التي تحظى بشغفهم، فحتى الموت له طقوسه الخاصة لدى البعض، فالميت في السلمية يُدفن بعد أن يُلبسوه أجمل ثيابه وغالباً ما ينزلون معه في التابوت الخشبي بعض الأشياء الخاصة به والمحببة إليه”.

قدمت السلمية طوال ماضيها الكثير من المعارضين لحكم البعثيين، وقد لوحقوا وزج بهم في السجون سنين طويلة. وقد تميزت المدينة بوجود نساء معارضات فيها، وقد سُجن عددٌ منهن بهدف القضاء على روح التمرد الأصيلة في نفوس أبنائها. لاقت المدينة التهميش والفقر والحصار، وغاب عنها اهتمام الدولة منذ وصول البعثيين إلى السلطة.

وفي عام 1982، كانت سَلَمية الأم الحقيقية الوحيدة لجروح أهل حماة. واليوم، وبعد ثورة الحرية والكرامة في سورية، كانت سَلَمية ثالثة المدن التي تتمرد في وجه النظام السوري بعد درعا وحمص، وقد كانت تظاهراتها من أكبر التظاهرات بالقياس إلى عدد السكان، لكنها، في الحقيقية، لم تأخذ حظها من الإعلام، وقد تمت محاولات كثيرة للتعتيم على هذه التظاهرات، وقد اعتقل العديد من رجال السلمية، ومن شاباتها الناشطات السلميات، ولعل المحامية جيهان أمين من أول الأسماء وأشهرها. وتحولت المدينة إلى مكان لإيواء النازحين من كل المحافظات الباقية المنكوبة.

في السنة الأخيرة ازدادت ممارسات “الشبيحة” فيها إلى درجة لا تُحتمل، وعمّت المدينة حالة غليان عامة، وخرجت تظاهرات، شارك فيها المعارضون والمؤيدون معًا في ظاهرة رائعة لم تحدث في أي مكان آخر. في المقابل هدد تنظيم (داعش) المدينة عدة مرات، قبل هذه المجزرة، لكن النظام أبقى هذه الورقة إلى اللحظة المناسبة ليظهر حاميًا للأقليات التي باعها مثلما باع كامل الوطن، لكن السلمية كانت -وستبقى- مدينة الحرية، والتاريخ، والتصوف، والمعرفة، والشعر، مدينة العلمانية الحقيقية، والحياة الرائعة، ولن يتمكن المجرمون وأعوانهم من إزاحة حضورها الكبير، وإزالة أثرها الطيب. السلمية، اليوم، تحت سكاكين الحقد الأسود، وبين مخالب الغربان المقيتة، ولكنها أكبر من أعدائها، وستبقى هي وسيرحلون هم، وسيبقى لأهل السلمية الطيبين السلام الذي يليق بهم.




المصدر