العمليات الانتحارية دليل آخر على عمق المأساة


منير شحود

تطورَ مفهوم التضحية تاريخيًا مع تطور المجتمعات البشرية، فمن التضحية بالبشر قرابين لاسترضاء آلهة قوى الطبيعة في المجتمعات البدائية إلى استبدالها بالحيوانات المدجَّنة في مرحلة لاحقة؛ ومن ثمّ الوصول إلى بدائل رمزية وتجريدية. التعبير الرمزي للتحول التاريخي، من التضحية بالإنسان إلى التضحية بالحيوان، نجده في قصة النبي إبراهيم الذي كان سيضحي بابنه إسماعيل، لولا استبداله بخروف من السماء في اللحظات الأخيرة. حتى في حالة التضحية بالحيوان، فثمة طقوس فنية تجب مراعاتها لتسهيل الموت؛ كأن تكون السكين حادة، والذبح سريعًا لإحداث أقل ألم ممكن للضحية.

تمثَّل التحول الملفت في العقود الأخيرة باتساع نقاط العمليات الانتحارية الفردية في منطقتنا على نحوٍ لم يشهده العالم من قبل، فهل يمثل ذلك منحًى جديدًا في الصراعات أم أنه تعبير عن استعصاء تاريخي مؤقت؟ وما المحفِّزات التي تكمن وراء هذه العمليات؟

قامت كل الحركات الاجتماعية المناضلة ضدّ الظلم من رحم البؤس، ولم تكبحها سوى قدرة بعض المجتمعات الحديثة على إيجاد وسائل مختلفة لتحقيق نوع من العدالة، وتوفير الحد الأدنى لمتطلبات الحياة المادية والروحية. لا يكفي البؤس للتضحية بالذات بهذه الطريقة، وتحتاج العمليات الانتحارية إلى دوافع نفسية أو أيديولوجية أخرى، ومنها الدافع الديني الذي يؤمّن الشحنَ الأقوى، مقارنةً بالأيديولوجيات الأرضية مثل الماركسية وغيرها، لما يوفره من وعودٍ أخروية على نحوٍ خاص.

يتصف أبناء المجتمعات التي تحدث فيها مثل هذه العمليات، بتغليب الانفعالات والعواطف في ردات الأفعال؛ أي أن هذه الردات لا تشكل خلفية الفعل العقلاني، إنما تشكل واجهته في أحيان كثيرة. وعندما يتعلق الأمر بمواجهة عدو أكثر عقلانية وقوة، يلجأ المجتمع، من خلال بعض أفراده، إلى اختصار الطريق إلى المواجهة بطريقة الصدم، عوضًا عن تقصّي أسباب التفوق، ووضع الخطط الكفيلة بتجاوزها، وهذا يحتاج إلى مستوى مختلف من التطور بالطبع. هنا تحضر الأضاحي البشرية سبيلًا سريعًا للمواجهة، مع أنّها لا تُفضي إلى أي نتيجة، باستثناء استمرار دورة العنف، فضلًا عن كونها تندرج في قائمة الإرهاب.

الشباب والمراهقون هم وقود مثل هذه العمليات، نظرًا لعدم اكتمال دائرة النضج العاطفي-العقلي عندهم، ما يحول دون التحكُّم التام بالعواطف. في هذه السن، تطغى العدوانية، عند الذكور خاصةً، على عواطف إيجابية أخرى، كالفرح وحب الحياة؛ من جراء نمط تربوي محدد. وتختلف الكيفية التي تنصرف فيها هذه العدوانية تبعًا للظروف الاجتماعية: رياضة، جنوح، عصابات الشباب، عصبيات قومية أو دينية.. إلخ. لكن، بوجود ظروف ملائمة، مثل الشحن العقائدي، يمكن أن تتحول الطاقة العدوانية عند الشباب إلى قوة تدميرية هائلة، وقد يصل الأمر مداه الأقصى في عمليات التدمير الشاملة للذات والآخر، بخاصة لقاءَ وعدٍ بحياة أخرى، تعِد بتلبية الاحتياجات الغريزية وتعويضها في مجتمعات يغلب عليها الكبت والحرمان.

مهما يكن، تحتاج التضحية بالذات إلى مستوى عالٍ من قوة الدافع المؤطِّر والموجِّه للانفعال، بحيث تتجاوز هذه القوة غريزة البقاء، وهي الأقوى على الإطلاق من بين الغرائز جميعها. يختلف ذلك تمامًا عن حالات الانتحار الفردية التي تحدث كنهاية “منطقية” لحالة نكوص نفسية، تتراجع فيها غريزة البقاء إلى أدنى مستوياتها.

حدثت العمليات الانتحارية، خلال القرن العشرين، لأسباب مختلفة وفي بلدان غير إسلامية أيضًا؛ عمليات الكاميكاز اليابانيين، في نهاية الحرب العالمية الثانية، والعمليات الانتحارية لانفصاليي التاميل في سيريلانكا وغيرهم. بيد أن هذه العمليات وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحالي، بخاصة في أفغانستان والعراق وسورية، ثم انتشرت في مناطق مختلفة من العالم، وقام بها جهاديون إسلاميون.

كما كانت الأسباب العقائدية الوطنية وراء بعض العمليات الانتحارية/ الاستشهادية، فقد قادت سناء المحيدلي، القومية الاجتماعية السورية، عام 1985 سيارتها المفخخة وفجرتها في تجمع لآليات إسرائيلية في جنوب لبنان، وكانت في عمر 17 سنة. كما فجرت حميدة الطاهر، السورية البعثية، نفسها بسيارة مفخخة بموقع إسرائيلي في العام ذاته، وكانت بعمر 17 سنة أيضًا. ولم يتعد الدافع العقائدي لزميلتهما الشيوعية سهى بشارة، 20 عامًا، القيام بمحاولة اغتيال قائد “جيش لبنان الجنوبي” الموالي لإسرائيل أنطوان لحد عام 1988، من دون التضحية بنفسها، وأُدخلت السجن الإسرائيلي حتى أُطلق سراحها عام 1998. الملفت للنظر أن العمليتين الاستشهاديتين قامت بهما امرأتان، لكن لا يمكن الخروج بدلالات محددة من مثل هذه العينة الصغيرة.

أحد عوامل تفشّي العمليات الانتحارية هو تأييد معظم النخب والشعوب العربية والإسلامية لثقافة “الاستشهاد” والتهليل لها، على الأرجح بسبب العجز وانسداد الآفاق والهروب من ضغط البنى الاستبدادية الدينية والمدنية، فتكون هذه العمليات تكثيفًا وتفريغًا لاحتقان اجتماعي، أكثر من كونها فعلًا مؤثرًا في الصراع الداخلي أو الخارجي، وهي تؤشر إلى نكوص اجتماعي خطر وتحديات غير مسبوقة، مثلما تشير أيضًا إلى حجم الطاقة الكامنة والمعطَّلة التي لا تتوفر لها سبل التفريغ والتوجيه الملائمين؛ ما يجعلها خطرًا على العالم الذي بدأت تنتشر فيه فوبيا الإسلام على نطاقٍ واسع.

على العموم، ليست الظواهر الغريبة التي تعجّ بها مجتمعاتنا، ومنها سورية، سوى نتائج لخمسين سنة من حكم الأنظمة الاستبدادية التي قطعت مسيرة تطورٍ، وضع أسسها روادُ عصر النهضة في بداية القرن العشرين؛ ما أفقر مجتمعاتنا ووضعها في أدنى مؤشرات التطور الاجتماعي والحضاري. كما كانت عدة سنوات مما سمي بـ “الربيع العربي” كافية لهزيمة المشروع الإسلامي الذي حاول ملء الفراغ، وهو البديل الوحيد المتوافر آنئذٍ، لكنه لم يفعل سوى استكمال كل هذا الخراب. وستبقى الأمور ضبابيةً إلى أن تتبلور معالم طريق جديدة تضع مصلحة الإنسان وتلبية احتياجاته الأساسية فوق كل المصالح والعقائد، على رأسها التخلُّص من أحزمة البؤس والفقر، ومن خلال إقامة صرح الدولة الحديثة، بما يعنيه ذلك من نظام المواطنة والمساواة أمام القانون.

لقد أضحى تلازم الإصلاحين -السياسي والديني- أمرًا فائق الأهمية من أجل تجاوز هذه المرحلة الصعبة، بما في ذلك دمقرطة المجتمع وتعزيز دور منظمات المجتمع المدني وحرية التعبير عن الرأي والتركيز على المحتوى الأخلاقي للأديان، ما يمهِّد لفكّ الارتباط التاريخي القاتل بين السلطتين -الوضعية والدينية- تلك الكماشة التي أطبقت على شعوبنا طوال مئات السنين.




المصدر