تقاسم النفوذ الدولي .. من البادية السورية إلى جنيف


تمضي لعبة النفوذ الدولية في سوريا عسكرياً وسياسياً، حيث سعى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة إلى تكريس منطقة نفوذه شرقي البلاد عبر ضرب أرتال تابعة لنظام الأسد قرب منطقة التنف على الحدود العراقية، فيما تكفل النفوذ والضغوط الروسية في إحباط الجولة السادسة من مفاوضات جنيف.

وفي هذا الوقت يمضي نظام الأسد في تطبيق سياسته الخاصة بتهجير سكان ومقاتلي مناطق المعارضة باتجاه شمالي البلاد، كما تتكشف المزيد من الحقائق حول ممارساته الإجرامية بحق المعتقلين داخل السجون وآخرها ما كشفته الخارجية الأمريكية عن وجود “محرقة” داخل سجن صيدنايا قرب دمشق للتخلص من جثث المعتقلين الذين يتم إعدامهم.

وأجمعت التحليلات على أن الغارة الأميركية ضد قوات نظام الأسد ومليشيات مساندة لها، على طريق دمشق- بغداد، وتحديداً عند معبر التنف عند الحدود السورية – العراقية – الأردنية، موجَهة للمشروع الإيراني الهادف إلى ربط الأراضي الإيرانية بالعراقية والسورية واللبنانية، وأثارت ثالث ضربة أميركية ضد نظام الأسد، بعد مطار الشعيرات، وجبل ثردة قرب دير الزور قلق المحور الداعم للنظام، خاصة أنها جاءت عشية وصول الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى السعودية والتي تستهدف بالدرجة الأولى مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، وقد استهدفت الضربة الأميركية  رتلاً لميليشيات موالية لإيران كانت تحاول الوصول إلى معبر التنف على الحدود الأردنية السورية، لتأمين ما يتم تداوله بشأن إنشاء طريق بري يربط طهران مع بيروت، وتُعتبر الضربة، التي أسفرت عن تدمير أربع دبابات وعربة شيلكا وثماني سيّارات بيك آب وأربع أخرى تحمل مضادات طيران، وقتل وإصابة جميع عناصر الرتل، رسالة قوية إلى إيران وميليشياتها التي تقاتل في سوريا، والتي تعمل على تأمين طريق بري لها من طهران عبر المناطق التي يسيطر عليها “الحشد الشعبي” في العراق إلى البادية السورية وصولاً إلى دمشق، ومنها إلى الساحل السوري ولبنان، لتأمين الدعم اللازم لتدخلها العسكري في المنطقة.

كما أظهرت الضربة الأميركية عجز الروس عن إدارة المعركة على الأرض، خصوصاً تنسيق حركة قوات النظام والمليشيات الإيرانية والعراقية، والتي على ما يبدو أصرت على خرق منطقة النفوذ الأميركية، التي تمرّ من البوكمال إلى البادية السورية بمحاذاة مدينة تدمر إلى المنطقة الجنوبية، وبذلك تكاد تكون الحدود العراقية السورية مسيطراً عليها من قبل الولايات المتحدة، في حين تتولى “قوات سوريا الديمقراطية” السيطرة على الحدود في منطقة الجزيرة الممتدة إلى ريف البوكمال.

 

معارك البادية

 وتشير هذه التطورات في البادية السورية إلى أن معارك السيطرة على الحدود والطرق الاستراتيجية قد بدأت بالفعل حيث أن الكلمة العليا حتى الآن هي للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة أو تدعمه على الأرض على حساب كل من محور النظام وتنظيم “داعش”، وعلى الأرض يدور سباق بين  كل من نظام الأسد والمعارضة المسلحة وقوات التحالف الدولي ومليشيات الحشد الشعبي على الوصول إلى النقاط المركزية في طريق البادية خصوصاً لجهة معبر التنف الحدود، خاصة أن البادية السورية لم تُدرج ضمن “مناطق تخفيف التصعيد” التي ضمنتها روسيا وإيران وتركيا، الأمر الذي يجعل المنطقة مفتوحة على العديد من السيناريوهات.

ولا تخفي الأطراف المشاركة في الصراع اهتمامها بمعركة البادية، وعلى مختلف المستويات، وقال وزير خارجية نظام الأسد، وليد المعلم إن “للبادية أولوية في معارك الميدان”، وأن الهدف الأساسي حالياً هو الوصول إلى دير الزور، وهو ما يتناغم مع حديث وسائل الإعلام والمحللين التابعين للنظام وحلفائه المتواصل عن معركة البادية وأهميتها، عبر الوصول إلى الحدود العراقية السورية لتأمين طريق بري يصل إيران بلبنان مروراً بالعراق وسوريا، بالإضافة للتوجه إلى دير الزور. ومؤخراً تقدمت قوات النظام عشرات الكيلومترات على طريق دمشق- بغداد، متمركزة عند منطقة السبع بيار (التي تبعد 120 كيلومتراً شرقي دمشق ونحو 70 كيلومتراً عن الحدود الأردنية)، ومنطقة ظاظا، إضافة إلى عدة كتل مطلة على مطار “السين” شمالي شرقي ريف دمشق، وتقتضي السيطرة على طريق دمشق- بغداد السيطرة على معبر التنف الحدودي، الذي يمثل اليوم قاعدة عسكرية لفصائل المعارضة التي تقدمت أيضاً باتجاه منطقة حميمة، على بعد 40 كيلومتراً شرقي تدمر، إضافة إلى القيام بإنزالات جوية في مدينة البوكمال التابعة لمحافظة دير الزور والواقعة على الحدود مع العراق، معلنةً صراحة أنها هدفها المقبل.

ويبدو أن أمام قوات النظام مناطق كثيرة قبل الوصول إلى السخنة من جهة تدمر، مثل مناطق أرك والمحطة الثالثة وحقل الهيل، ويسعى النظام إلى مهاجمة المعارضة في عمق البادية، والسيطرة على المناطق التي حرروها من “داعش” أخيراً، حيث البادية هي الطريق الأسهل باتجاه ريف دير الزور الشرقي، لكن طالما هناك جنود أميركيون مع المعارضة فالأرجح أن النظام سيتابع طريقه باتجاه السخنة، ليعمل على الفصل بين مقاتلي المعارضة و”داعش”، لكي يكون له الفرصة الأكبر للسيطرة على مناطق التنظيم فور انسحابه تحت الضربات القوية التي يتلقاها.

وبحسب ناشطين، يجلب النظام باستمرار تعزيزات إلى المنطقة مستفيداً من اتفاق “مناطق تخفيف التوتر” الذي أراح قوات النظام على الجبهات وعمل على نقل جزء من قواته إلى البادية، رغم أن هذه المناطق خالية تماماً من “داعش” وجبهة تحرير الشام .

ورغم ذلك، تجاهلت ميليشيات إيران تحذيرات التحالف الدولي، واستولت على نقطة جديدة في البادية السورية، حيث باتت أقرب من أي وقت مضى من منطقة التنف في المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن.

وقال البراء فارس مدير المكتب الاعلامي لـ”جيش مغاوير الثورة”، كبرى فصائل الجيش السوري الحر العاملة في منطقة البادية، إن الميليشيات استغلت الأحوال الجوية التي اجتاحت مساحات واسعة من البادية، لتسيطر على عقدة الزرقاء، القريبة من معبر منطقة التنف الحدودية التي تتخذها قوات التحالف الدولي كقاعدة عسكرية لها، وقد استقدمت فصائل الجيش السوري الحر تعزيزات كبيرة بهدف استعادة عقدة الزرقاء، ودفع ميليشيات إيران إلى ما بعد حاجز ظاظا ومنطقة السبع بيار التي احتلتها تلك الميليشيات مؤخراً، ورأى فارس أن تلك الميليشيات لن تتجرأ على محاولة التقدم نحو منطقة التنف الحدودية مع العراق والأردن، خصوصاً بعد الغارة الجوية لطائرات التحالف الدولي على الرتل العسكري.

وكشف أن قوات التحالف الدولي زودت “جيش مغاوير الثورة” بدفعة جديدة من الأسلحة والعتاد، في منطقة التنف، وتضمنت آليات عسكرية ثقيلة وصواريخ مضادة للدرع من نوع “تاو”، ورشاشات ثقيلة، وكاشفات ألغام وبنادق وذخيرة إلى جانب بزات عسكرية.

 

 

 جنيف يراوح

 في غضون ذلك، انتهت الجمعة الماضية الجولة السادسة من مفاوضات جنيف بإشراف الأمم المتحدة دون أن تحقق أي تقدم ملموس، حيث رأى المبعوث الخاص للأمم المتحدة أن أيام “التفاوض الأربعة” لم تسمح له بالتعمق بالسلال الأربع (الحكم، الدستور، الانتخابات، الإرهاب)، في حين قدّم وفد المعارضة مذكرات حول المعتقلين ودور إيران في سوريا وقضية التغيير الديموغرافي.

وأوضح دي ميستورا أنه لتحفيز الوفود، فقد أطلعهم على وثيقة داخلية (تشكيل آلية تشاورية) لم يكن الغرض التفاوض عليها بل التعرف على رؤيتهم بدل قضاء وقت لمناقشتها.

وحول مصير السلال الأربعة قال “الغرض من المباحثات التركيز على أربعة سلال، وتهدف إلى مساندة الجلسات الرسمية لدفع المسار التفاوضي، ونحن لا نهدف ولا نخطط لصياغة دستور جديد لسوريا، فالسوريون من سيقوم بذلك، بل نسعى لتمهيد السبيل للسوريين في سياق حل سياسي، وسياق القرار الأممي 2254”.

من جهته، قال رئيس وفد المعارضة إلى المفاوضات نصر الحريري إن وفده قدّم مذكرات حول المعتقلين ودور إيران في سوريا وقضية التغيير الديموغرافي، وأضاف أنه ليس هناك أي ضغط دولي حقيقي على نظام الأسد للدخول في عملية سياسية حقيقية.

وقد سعت روسيا خلال مفاوضات جنيف إلى تهميش هذا المسار لصالح مسار “أستانا” الذي تتفرد تقريباً برعايته، وهو بشكل عام يدعم سياسة النظام على الأرض، بعيداً عن المرجعيات الدولية.

وقد تجلى هذا التوجه الروسي خلال اجتماع أعضاء وفد الهيئة العليا للتفاوض مع نائب وزير خارجية روسيا غينادي غاتيلوف، والذي حاول إقناعهم بالكف عن مطالبهم بالتركيز على قضية الانتقال السياسي ورحيل النظام، وأبلغهم بأنه لا توجد أي قرارات دولية تقضي برحيل بشار الأسد، وردّوا عليه بالقول إنه لا يمكن قبول أي حل في سوريا لا يتضمن رحيل الأسد عن السلطة.

وقبل إسدال الستار عن جولة التفاوض، أعلنت 8 فصائل عسكرية تعليق مشاركتها في وفد المعارضة بجنيف، فيما موقف بدا أنه كان نتيجة للضغوط المكثفة على الوفد لقبول الانخراط في “المناورات” التي يقوم بها المبعوث الدولي لتجنب طرح قضية الانتقال السياسي مراعاةً لموقف وفد النظام الذي يرفض الخوض فيها .

وقال بيان للفصائل صدر في وقت متأخر الخميس، ووقعت عليه قوى بارزة باستثناء “جيش الإسلام”، إن من أسباب تعليق المشاركة “عدم وضوح المرجعية والتخبط باتخاذ القرار، وعدم وجود استراتيجية تفاوضية”، وكذلك “العلاقة بين الهيئة العليا للمفاوضات وبين الوفد المفاوض الرئيس التي لا تصب في مصلحة الثورة” كما جاء في البيان الذي وقع عليه كل من  “فرقة السلطان مراد، فيلق الشام، جيش الثوار، جيش اليرموك، حركة تحرير الوطن، تحالف قوات الجنوب، جيش أحرار العشائر، والجبهة الشامية”.

 

التهجير

في غضون ذلك، واصل النظام سياسة التهجير والتغيير السكاني التي يتبعها في العديد من المناطق. ووصلت في الأيام الاخيرة المزيد من قوافل المهجرين من حيي القابون وبرزة شرقي العاصمة دمشق ومن حي الوعر في حمص إلى الشمال السوري.

فقد وصلت دفعة ثانية من مهجري حيي برزة والقابون وعددهم 2200 مدني ومقاتل من الفصائل، إلى مراكز إيواء في إدلب، وتوزعوا على مخيمي “إحسان” و”مبيض” في مدينة إدلب، ومخيم “ساعد” في قرية معارة إخوان.

ومن المقرر أن يتم تهجير نحو 8 آلاف شخص من حي برزة، وفقاً للاتفاق التي تم إبرامه بين لجنة الحي المفاوضة وممثلين عن النظام، إلا أن هذا الرقم ليس نهائياً، خصوصاً أنه تم تهجير نحو 3 آلاف شخص خلال الدفعتين السابقتين، حيث خرجت في 8 من الشهر، الدفعة الأولى إلى إدلب، وتضمنت 1500 شخص، وبعدها بأيام خرجت الدفعة الثانية، والتي تتضمن نحو 1300 شخص، بينما من المقرر أن يتم خلال الأيام القادمة تسيير 5 دفعات إضافية نحو شمال سوريا.

ويبقى حي جوبر آخر معقل للفصائل المقاتلة في شرقي العاصمة دمشق، في حين تسيطر فصائل الجيش السوري الحر على أجزاء من منطقة جنوبي دمشق، والتي تضم بلدات “ببيلا ويلدا وبيت سحم”.

كما غادرت حي الوعر الحمصي الدفعة الثانية عشرة والأخيرة باتجاه ريفي حلب وإدلب، وذلك بعد ساعات من دخول الشرطة العسكرية الروسية إلى الحي، وضمت الدفعة نحو 5 آلاف شخص معظمهم مدنيون، ومئات المقاتلين.

يأتي ذلك، في وقت كشفت فيه الولايات المتحدة عن إقامة النظام محرقة جثث داخل سجن صيدنايا، أحرق فيه عدد من آلاف الجثث لسجناء قتلوا فيه خلال السنوات القليلة الماضية. وأوردت الوزارة صوراً مأخوذة من الأقمار الصناعية، رفعت السرية عنها، لهذا السجن في صيدنايا الواقع شمالي دمشق تعود إلى نيسان 2017، ونيسان 2016، وكانون الثاني 2015، وآب 2013، وتبدو فيها صور لأبنية كُتب تحت أحدها “السجن الرئيسي”، وتحت صورة أخرى كتب “محرقة الجثث المحتملة”.

وتتقاطع هذه المعلومات الأمريكية مع تقرير مدعم بصور مأخوذة من أقمار صناعية نشرته منظمة العفو الدولية في شباط الماضي، ويتهم نظام الأسد بشنق نحو 13 ألف شخص بين عامي 2011 و2015 في هذا السجن، ونددت المنظمة بسياسة الإبادة التي ينتهجها النظام.



صدى الشام