عن الوجع والكتابة في رواية (مدن اليمام) للكاتبة إبتسام التريسي


ضاهر عيطة

أن نروي عن وجعنا الشخصي، ونحيله إلى عمل أدبي، فتلك مهمة صعبة، ولا سيّما إذا كان الراوي أمًّا، فُجعت باعتقال ابنها، وتاهت عنها أخباره، غير أن المؤلفة إبتسام التريسي استطاعت أن تضبط إيقاع مشاعرها، وهي تخط سطور روايتها، في لحظة كان فيها ولدها “نور” مغيبًا في معتقلات الأسد، وقد مكنها ضبطها أحاسيسها ومشاعرها من حياكة عمل روائي متحرر من وطأة المعاناة الذاتية، والرغبات الفردية، فأتى مفتوحًا على آفاق أبعد من الأنا، ولم تحتكر المؤلفة صوت الراوي، ولم تجعل الحدث يتمحور حول شخصية ولدها نور، بل فتحت أبواب بنيانها السردي على مآسي شخصيات متعددة ومتنوعة، وأوجاعها، أطلقت لها العنان وتركتها تروي عن ذاتها؛ فجاءت تلك الشخصيات محملة بملامح وذكريات وأحداث خاصة بها، وُظفت في نسيج البناء السردي؛ فكان لها حضور واضح، بعيدًا عن معاناة الأم وفجيعتها باعتقال ابنها، وهكذا استطاعت رواية (مدن اليمام) أن تحيط  بنشأة الثورة السورية منذ انطلاقتها الأولى، وأن ترصد أحداث سنة كاملة تقربيًا، وقد رغبت المؤلفة في جمع أكبر قدر ممكن من المشاهد التي صاحبت أحداث الثورة، على كامل الجغرافية السورية تقريبًا، حيث سعت للتنقل بنا عبر أمكنة متعددة، شكّل كلٌّ منها فضاءً جديدًا لأحداث ومآسٍ جديدة، وآفاق وشخصيات جديدة، ولعل المؤلفة أرادت -من خلال هذا التنوع في الشخصيات- التأكيدَ على أنها ليست هي الأم الوحيدة التي عانت من لوعة الفقد، أو وحدها من تذوقت مرارة الحرمان والقلق على مصير ولدها، إنما في كثير من الأحيان كنا نتناسى مصيبة الأم الراوية، لفظاعة وأهوال ما تعانيه الشخصيات الأخرى، وكان السرد يتوزع بين الشخصيات، وبين الأمكنة -حسب ما تتطلب البنية الدرامية- لتسليط الضوء على المحيط الجغرافي لكل شخصية، ولتصوير أحداث الثورة وما تبعها من جرائم، ارتُكبت على يد عصابات الأسد في درعا وجسر الشغور وإدلب وأريحا والعاصي وحلب وحماة ودمشق والمخيم الفلسطيني وحمص.. وكان تمازج هذه المدن والأمكنة وسيلةً اتخذتها المؤلفة للتعبير عن امتزاج إرادة الشخصيات، والمشاركة في الحلم الواحد، والمصير الواحد، فتتركها تروي مصاب تلك المدن، مانحة كل شخصية منها حيزًا واسعًا في البنية السردية؛ فراحت تتداخل الحكايات، وتتعدد الشخصيات، وعلى الرغم من هذا التعدد والتنوع، واختلاف الانتماءات المذهبية والفكرية والاجتماعية لكل شخصية، إلا أن حلم الحرية كان يجمعها كلها، وكانت إرادة التضحية للخلاص، من النظام القمعي الذي ظل جاثمًا على صدور السوريين خمسة عقود، تسطع وترتفع، وقد مرت المؤلفة بعقود القمع والقتل التي مورست على السوريين من قِبل الأسد الأب، ثم الأبن، رابطة ذلك مع القضية الفلسطينية، من خلال شخصية “أبو سعيد” الذي كان يواظب على الجلوس قرب باب بيته، مترقبًا عودة زوجته التي خرجت يومًا ولم تعد، كحال ترقب عودته إلى فلسطين التي لم تحدث حتى الآن، ومع هذه اللفتة إلى المأساة الفلسطينية، كنا نقف أمام محاولة تسعى إلى تأسيس نوع من الذاكرة الجمعية، تربط بين مصاير الفلسطينيين ومصاير السوريين الذين بدورهم سيغدون مشردين، غداة تهجيرهم من بيوتهم ودورهم على يد عصابات نظام همجي، أجاد إلى أبعد الحدود محاكاة نظام الاحتلال الصهيوني، بل تفوق عليه في سلّم الإجرام.                                                                                          بعد وفاة أبو سعيد، تظهر شخصية “حنظلة” لتكمل هذا الخط الدرامي، وجاء حضورها كثيفًا ومؤثرًا في بنية الرواية، وكان الراوي هنا يروي، من خلال صفحات (فيسبوك)، حيث يستعرض جملة من الأحداث، تراوح بين تجربته في المعتقلات السورية، وبين الحديث عن التهجير من المخيم الفلسطيني في سورية، والتهجير من الأراضي الفلسطينية.                                                                                                                                                     رصدت رواية (مدن اليمام) مجريات الثورة السورية، ووثقت أحداثها منذ انطلاقتها الأولى، حين كانت ثورة نقية طموحة، ولم يكن الأوغاد بعدُ قد نالوا من سمعتها، فكنا طوال أحداث الرواية نتعرف على شخصيات فتيّة، شبان وفتيات، حلا، حسام، نورس، بتول، زينة، محمد.. جميعهم خلعوا من صدورهم رهبة الخوف والعطالة، واندفعوا مطالبين بحريتهم؛ فكانت الأم الراوية ترى فيهم ولدها نور، وكانوا بدورهم يواصلون مشوار نور في الثورة، يتظاهرون، ويغنون للحرية، ويجمعون التبرعات للمشردين على الحدود، والأدوية إلى المشافي الميدانية، ويستضيفون النازحين في بيوتهم، وهذه الأعمال الإنسانية تحديدًا كانت الخطر الذي هدّد مصيرهم، وكلفهم أرواحهم.                                                                                                                    في العموم يمكن القول إننا مع لغة ابتسام السردية، كنا نقف أمام أحداث القتل والتدمير التي ترتكبها مدافع الأسد وطائراته ورشاشاته، وكأننا نشهد ذلك أول مرة، ولكيلا نعتاد على هذا الواقع الفجائعي، كانت شخصيات الرواية، تباغتنا في كل مرة، بوعي جديد، وإدراك جديد، لتعميق فهمنا بضرورة مواصلة الثورة، مهما بلغت التضحيات، وهذا ما بدى جليًا من خلال حضورها ولغتها السردية، في لحظة كان فيها ابن الأم الراوية بين يدي جلاديه.




المصدر