البوكمال… مدينة سورية حدودية تتوق إلى الحرية


مدينة البوكمال في شرق سورية التي يكثر الحديث عنها في الأيام الحالية، كانت على مدار تاريخها الممتد إلى القرن قبل الماضي مدينة صاحبة موقف من النظام، فقد اشتعلت تظاهراتها قبل عشرين عاماً وتجددت مع الثورة السورية عام 2011

قبل أكثر من 150 عاماً، وفي منطقة كانت تسمى النحامة على ضفة نهر الفرات، نشأ تجمع سكاني، أسسته مجموعة عائلات جاءت من مناطق مختلفة في العراق. بالقرب من التجمع كانت هناك ثكنة عسكرية عثمانية. يقال إنّ هذا التجمع كبر ليتحول إلى مدينة البوكمال التابعة إدارياً إلى محافظة دير الزور السورية. تقع البوكمال على مقربة من الحدود السورية – العراقية، وتكثر الروايات حول أصل تسمية المدينة، التي يقال إنّها نسبة إلى درويش أفندي، المكنّى أبا كمال، والذي عين قائد الثكنة العثمانية تلك زمن نشأة المدينة. المدينة معروفة بمعارضتها العثمانيين ومن بعدهم الاحتلال الفرنسي ثم نظام عائلة الأسد من الأب إلى الابن.

يقول الصحافي السوري يعقوب قدوري، ابن مدينة البوكمال، لـ”العربي الجديد”: “البوكمال من دون ريفها كان فيها 80 ألف نسمة قبل الثورة. مجال عملهم الأساسي هو التجارة، نظراً إلى موقع المدينة الجغرافي الاستراتيجي بالقرب من الحدود السورية – العراقية حيث توجد بوابة حدودية، ونظراً إلى التجمع السكاني الكبير في المدينة وريفها. هذا الريف غني بالمحاصيل الزراعية المتنوعة، التي تعتبر مصدر الدخل الرئيسي له إلى جانب التحويلات المالية الخارجية من قبل المغتربين لذويهم”. يشير قدوري إلى أنّ البوكمال “كانت تضم سابقاً صناعات بسيطة، إلى جانب ورش حرفية كثيرة ومتنوعة كونها مركزاً لعشرات القرى المحيطة بها”.

تعليمياً فإنّ “الأمية في المدينة غير ملحوظة لكنّ أغلب الأفراد كانوا يصلون في تحصيلهم العلمي إلى الشهادة المتوسطة أو الثانوية. في المقابل، كانت المدينة مكتفية بأبنائها في كثير من المهن الحرة كالطب والمحاماة والهندسة المعمارية، لكن مع نقص في المدرّسين للمراحل الثانوية ما كان يدفع الدولة إلى إرسال مدرسين من محافظات أخرى لملء الشواغر”.

يلفت إلى أنّ “التهريب ما بين الأراضي العراقية والسورية كان حتى عام 2003 معدوماً. بعدها أوجدت طرق تهريب خصوصاً أنّ النظام تعمّد خلق ثغرات حدودية لعبور الجهاديين إلى العراق، فترافق ذلك مع حركة تهريب لكن ليس بمستوى كبير، ولم تدم طويلاً بعد فتح الحدود بين البلدين وانتقال البضائع بين الجهتين بشكل طبيعي”.

أما في ما يتعلق بالحياة السياسية في المدينة، فيوضح قدوري أنّ “التوجه السياسي العام لأهل المدينة هو معاداة نظام الأسد الأب والابن وكرههم الشديد له وإن بسرية. كانت الغالبية الساحقة من الأسر تعلّم أبناءها أن يقولوا وهم خارج المنزل إنّهم مع (الرئيس السابق) حافظ الأسد وداخل المنزل ضده. وبخصوص الأحزاب كانت هناك عملية تنسيب شبه إجباري إلى حزب البعث الحاكم، كما كان هناك ناصريون وشيوعيون. أما التيارات الإسلامية فقد كان من أبرزها وأكثرها انتشاراً الطرق الصوفية، وبالرغم من أنّ النظام كان متغاضياً عنها لكنها كانت تحت المراقبة الدقيقة، كما كان هناك حضور للسلفية خصوصاً في ظل حركة الاغتراب إلى الخليج. هؤلاء السلفيون كانوا عرضة للمراقبة والتحقيق والاعتقال من قبل النظام، في حين لم يكن هناك وجود لجماعة الإخوان المسلمين أقله بشكل علني”. يعقّب: “أنا شخصياً لم ألتقِ في حياتي بإخواني في البوكمال، وبالرغم من ذلك كان لأبناء المدينة نصيبهم من الاعتقالات بتهمة الانتماء إلى الجماعة، فقد جرى اعتقال بعضهم أكثر من 20 عاماً أمضوا معظمها في سجن تدمر السيئ السمعة”.

يتابع: “أبرز أسباب عداء المدينة للنظام، الجو الأمني الاستخباراتي المتشدد، حتى صار الأخ يخاف أخاه، ومن جانب آخر قطع النظام العلاقات بين سكان البوكمال وأقاربهم في العراق منذ الانقسام البعثي، حتى أنّ مجرد ذكر العراق كان جريمة”. يضيف: “هذه الروابط العائلية أوجدت مشاعر قوية تجاه العراق، تزايدت وميزها سخط كبير خصوصاً عقب حرب الخليج الثانية عندما أرسل حافظ الأسد قوات سورية للمشاركة في الحرب ضد العراق. كان أهل البوكمال يشاهدون بأعينهم الطيران يقصف أهلهم على الطرف الثاني من الحدود ويسمعون الانفجارات، وهذا أثّر كثيراً فيهم. وفي عز القبضة الأمنية للنظام في التسعينيات خرجت تظاهرة كبيرة في المدينة ضد النظام ونصرة للعراق، اعتقل على إثرها المئات من أبنائها الذين جرى تعذيبهم بوحشية، وبقي بعضهم في المعتقلات طوال سنوات”.

يذكر قدوري أنّ “أهالي البوكمال يتكونون من خليط عائلي ومجموعة عشائر، أما الأسر المؤسسة للمدينة فليست قبلية بل أسر كبيرة حضرية جاءت من العراق، فهناك عائلات بغدادية، وأخرى من مدينة مشهد، ويسمون المشاهدة، وآخرون من مدينة عانة ويسمون العانيين. وهناك أيضاً عشائر لكنّ وجودهم أوضح في ريف البوكمال لا داخلها”.

وحول موقف المدينة من الثورة السورية، يقول: “أول تظاهرة خرجت كانت يوم الجمعة في الرابع والعشرين من مارس/ آذار 2011. حينها تدخل وجهاء العشائر لفضها. لكن في يوم الجمعة التالي خرجت المدينة في تظاهرة كبيرة، تحت شعار جمعة العزة، فهتف المتظاهرون لدرعا وللحرية وطالبوا بالإفراج عن السجناء من أبناء المدينة. وبالرغم من أنّ النظام لم يصطدم بهم، إلاّ أنّه اعتقل على إثرها عدداً من المثقفين، ليعود ويفرج عنهم في وقت لاحق. تسارعت الأحداث ففي الخامس عشر من إبريل/ نيسان من العام نفسه، هاجم المتظاهرون شعبة حزب البعث في المدينة وحطموا تمثال حافظ الأسد ومزقوا صور بشار الأسد. وبالرغم من محاولة القوات النظامية قمعهم إلاّ أنّ التظاهرات تواصلت يومياً. ومع استخدام القوات النظامية الرصاص الحي والاعتقالات المكثفة، توجه الأهالي إلى العمل العسكري حتى سيطروا على المدينة مع أواخر 2012”. لكن لم تدم سيطرة الفصائل المعارضة طويلاً فقد انقلبت “جبهة النصرة” على الفصائل وسيطرت عليها، ومن بعدها سيطر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” حتى اليوم.

يقول قدوري إنّ “الكثير من أبناء المدينة انتشروا في دول العالم، خصوصاً تركيا وألمانيا ودولاً أوروبية أخرى. وبالرغم من ذلك، فالكثافة السكانية حالياً مرتفعة جداً لأنّ المدينة استقبلت عشرات آلاف النازحين من مناطق سورية وعراقية خصوصاً عقب الحملات التي تشن على مناطق تنظيم الدولة في البلدين”. يلفت إلى أنّ أكثر من 450 قتيلاً من المدينة سقطوا قبل سيطرة التنظيم عليها، كما أنّ هناك 140 معتقلاً لدى النظام. ويشير كذلك، إلى أنّ الأهالي يعارضون تنظيم “داعش” وينفذون ضدّه عمليات مسلحة كلّما كان ذلك ممكناً.



صدى الشام