الفيلم الوثائقي


فيصل الزعبي

هناك خلط بين السينما الوثائقية والسينما التسجيلية، وبتعبير أدق بين الفيلم الوثائقي والفيلم التسجيلي. الفيلم الوثائقي ينتمي للرؤيا، لوظيفة دِعائية محددة مسبقًا، حيث تُنتقى الوثيقة ومستلزماتها، لتحقيق هدف ما معلوم وواضح مسبقًا، ومقولةٍ يُولَّف الفيلم كله من أجلها، بينما مهمة الفيلم التسجيلي تسجيلُ الواقع كما هو، تسجيله من أجل الأرشفة، وكي يُستخدم في ما بعد.

قد يُستعمل الفيلم التسجيلي كجزء من الفيلم الوثائقي، لتحقيق هدفه ورؤيته المبتغاة، بينما الفيلم الوثائقي لا يُستعمل ولا يدخل في الفيلم التسجيلي، وقد نصنع فيلمًا تسجيليًا من نوع خاص، أو لحقبة محددة، عن الأفلام الوثائقية.

لذلك من الممكن أن يلعب الفيلم الوثائقي دورًا تضليليًا أو دِعائيًا؛ ويزوّر أو يغيّر الحقيقة، وهو دور خطير ومخيف يتلاعب في الرأي العام؛ دورٌ يستخدم المتلقي ويضلله، بطريقة تقنعه بالفكرة التي يريدها صانع الفيلم.

لقد بدأت السينما تسجيليةً؛ فكان تسجيل الواقع بداية لتجريب هذا الاختراع العظيم للصورة المتحركة، وقد كان الجمهور في حالة اندهاش أمام الصورة المتحركة الواقعية، في تصوير الواقع كما هو، ثم انتقلت للتوثيق بخلق تركيبة فنية لهدف ما، ثم جاء الفيلم الفني، استعارة من عالم المسرح ودور الممثل والحكاية الافتراضية الفنية في نطاق التأليف.

لم يكن الفيلم الوثائقي، عبر تاريخه، بريئًا من تشكيل الرأي العام، والترويج للأفكار، ومنها السياسية والأيديولوجية والدعائية بشكلٍ عام. كانت ذروة هذه الاستخدامات، في إبان الحرب الباردة، وقبلها في وزارات الدعاية للدول المتصارعة، أميركا، الاتحاد السوفيتي، ودولة هتلر النازية والفاشية في إيطاليا.

ورث التلفزيون هذه الوظائف للصورة المتحركة، بأشكالها المختلفة، سواء كان الشكل تسجيليًا ووثائقيًا أو ريبورتاجًا أو فيلمًا فنيًا بيتيًا، واعتمدت نشرات الأخبار في توثيق أخبارها ودعايتها ورؤيتها، على استلهام طريقة بناء الفيلم الوثائقي والتسجيلي، وطريقة التوليف والخداع والتضليل، لتعبئة الجماهير نحو موقف ما، موقف قد لا يمت للحقيقة بِصلة. كما اعتمد الفيلم الوثائقي على التطور الإعلامي “الصحفي” في استخداماته، فهو مركب من التسجيل والريبورتاج والمقابلات، واستخدام البحث الاستقصائي، وغيرها.

تنوع الفيلم الوثائقي، وأصبح له مدارس مختلفة، وكثير من الأسماء التي صنعت اسمًا لها في تاريخ السينما الوثائقية، فأصبح هناك الفيلم الوثائقي التاريخي، والعلمي، والحربي، وأفلام البحوث التي تدعم نظريات فكرية وتاريخية وعلمية، وأفلام الجغرافيا والحيوانات الوحشية، وأفلام تتحدث عن الفضاء وداخل المحيطات والبحار، والغابات، وسلسلة لا تنتهي من صنوف الحياة في هذا الكون. أصبح الفيلم الوثائقي والتسجيلي جزءًا من التاريخ وأرشفته للمستقبل، وأصبح واقعًا موازيًا للواقع، سيرجع إليه الدارسون والباحثون، بعد آلاف السنين، وسوف يكون بديلًا عن الكتاب والورق على ما يبدو، ويصبح أكثر حقيقة، وأكثر إقناعًا وتأثيرًا.

استفاد الفيلم الوثائقي كثيرًا من الفيلم الفني (الروائي)، من مركباته الجمالية في تكوين الصورة، وأهم من ذلك أنه استفاد من استخدامات الدراما، من تشويق وخلق عقدة الفيلم وذروته. وقد دخل التمثيل -من خلال تركيب الفيلم الوثائقي- للتعبير عن حدث يستحيل تصويره، كحدث وقع في الماضي، وكأفلام الاستقصاء عن حالة ما، تعتمد على التحقيق البوليسي، أو ما شابه ذلك. وأطلق على هذا النوع من الأفلام فنيًا (ديكودراما). حتى إن بعض الأفلام الفنية الروائية قد استخدمت بعض المقاطع من الأفلام الوثائقية والتسجيلية، والأمثلة على ذلك كثيرة. واستفاد الفيلم الوثائقي -أيضًا- من تسجيل الحدث بكاميرات مخفية، كطريقة للحصول على الحقيقة.

وقد نشأت محطات تلفزيونية خاصة بالأفلام الوثائقية، وشركات إنتاج ضخمة، تصرف ملايين الدولارات على إنتاجها؛ لما لهذه الأفلام من أهمية من جهة، ولوجود جمهور واسع لهذا النوع من الأفلام.

وأصبح للفيلم الوثائقي دور مهم في عالم الفن من جهة، وفي عالم السياسة وبحور العلوم الأخرى، من جهة ثانية، وله أهمية تعليمية في شرح نظريات معقدة وضرورية، في الجامعات والمعاهد والمدارس، وبحوث الطب والفيزياء على سبيل المثال لا للحصر.

قد نصنع الآن فيلمًا فنيًا روائيًا مدهشًا، يصبح بعد سنوات فيلمًا ساذجًا، لا جمهور له؛ لكن الفيلم الوثائقي يبقى خالدًا، ونستفيد منه عبر التاريخ. فالفيلم الوثائقي المحكم هو فيلمٌ عابرٌ للأزمان، تُحفظ قيمته المعلوماتية والرؤيوية، وتؤبد فيه الأمكنة والناس عبر التاريخ والحقب والتغيرات.

وللفيلم الوثائقي –اليوم- محترفون مختصون، ودارسون أكاديميون، ومخرجون معتبرون، وله كذلك كتّاب وباحثون مختصون في صناعته. وهو لا يحتاج إلى صناعة سينمائية معقدة، ولا يحتاج إلى احتكار فني ضخم مثل هوليوود. فمن الممكن أن تصنعه دولنا وبلداننا، ومن الممكن أن نتقنه، ونأخذ دورًا عالميًا في صناعته، لكنه يحتاج إلى فكر حر وصناعة إعلامية لترويجه ونشره، والاستفادة من قيمته العلمية والتاريخية والحياتية.

سيصبح، بل أصبح الفيلم الوثائقي حقيبة بحجم الكف، تحمل الأحداث والتاريخ والمعلومات، وسيصبح الحقيقة التاريخية الصادمة في المستقبل.




المصدر