ذاكرة المُهجرين أمل على تخوم الوطن


مهند شحادة

تمضي قوافل الراحلين قسرًا تاركين خلفهم، ذاكرةً تغص بما يكفي من مشاهد القهر المركب، وجنازات صامتة لأولئك الذين قضوا جوعًا داخل أسوار الحصار، وتحمل قدرًا كافيًا من ملامح وطنٍ، ضاق بأبنائه، وما استطاع أن يمنحهم أكثر من قبرٍ أو خيمة.

على تخوم دمشق، حكايات مختلفة عن واقع أبدعَ كثيرون في تشويه مكنوناته الجمالية، وتجميل معالم قبحه الوقحة، لا لشيءٍ وإنما إرضاءً لمدنيتهم المريضة، أو رؤيتهم المعطوبة عن أوهام الانتماء والإنسان، وفق توصيف المهجرين.

ربما لم يعد مفيدًا الآن إعادة سرد الحكاية لحواضن الثورة في محيط العاصمة التي لم تكن تربي سوى حلمًا صغيرًا، لا يتعدى إعادة صياغة أو تعريف الهوية الوطنية، خارج أطر التصورات الجاهزة أو المستوردة، ما الذي بقي من الحلم؟ ليس أكثر من غبار الراحلين، وبضع جُملٍ على الجدران، يتكفل أرباب الطائفية والبنى ما قبل وطنية بمسحها على مهل.

من الحصار إلى التهجير رواية الشهود

“الراديكاليّة الحقّيقيّة في الحصار هي أن تجعل الأمل أمرًا ممكنًا حقيقيًا، ماديًا ملموسًا لا مجرد كلمة تليق بالبؤساء والمساكين، في الحصار ستدرك أن أركان اليأس تامة، ستجده مُقْنِعًا إلى حد ما، ومع ذلك عليك أن تكون غير منطقي وغير عقلاني، وتتخلى عن إفراطك في الحساب ومعادلات الكم والأرقام، عليك أن تطيح بحدود المنطق وتترك العنان لعقلك، ليأخذك إلى عالم الخيال فتؤمن أن بإمكانك الطيران بيدين، أو على الأقل يمكنك السير بقدم واحد، أو يمكنك الزحف على بطن خالٍ من القرحة المعوية. الراديكالية الحقيقية هو أن تنصب للأمل تمثالًا، وتقنع ذاتك قبل غيرك أنه طريقك الوحيد نحو كوخٍ خشبيٍ على نهر، لا تعرف موقعه على الخريطة. الموت وأنت على هذه القناعة سيكون مؤلمًا لأنك تصنع لنفسك شيئا تخسره، ولكن الحياة على هذه القناعة أمرٌ ممتع أكثر”.

الكلام لـلناشط عبد الله الخطيب الذي ما زال محاصرًا جنوب دمشق، وقد يكون له ما يكفي من المبررات للإيغال في توصيف الحصار وحواره، في محاولةٍ لفتح “طلاقيةٍ” للأمل، تحمل ما يكفي من أيقونات جمالية عن الوطن المشتهى أو المتخيل؛ فتتحول إلى متراس يقي بضع تفاصيل وجدانية، ما تزال على قيد الحياة، من قذائف اليأس المنهالة من كل صوب.

لكن لمن هُجّروا عمّا قليل رؤية تختلف عن الخطيب وأصدقائه الغارقين حتى اللحظة في أزقة الحصار، لأنهم انتقلوا -آنيًا- على الأقل من مقاومة الموت إلى مواجهة واقع الهزيمة وشخوصها، هنا قالت الناشطة منتهى عبد الرحمن، المهجرة من مضايا، لـ (جيرون) “لأول مرة ينتابنا شعور بالهزيمة، كان طعمُ الرحيل، في تلك اللحظات قُبيل الصعود إلى الحافلات، مرًّا. ليس سهلًا اقتلاع أشجار السنديان من أرضها، ماذا تركنا خلفنا؟ تركنا قلوبنا تحرس أزقة الأحلام حيث ولدنا. الموضوع أكبرُ بكثير من أن تحيط بوصفه اللغة، ما الذي تختزنه الذاكرة؟ معالم المأساة، وجوه القتلة، أحلام الشهداء، وبشرٌ مُجهدون على مدى أعوام حاولوا فيها ترويض أنياب الحصار، وما حصدوا سوى طردهم من أرضهم، الدهشة كانت عند العبور إلى ما بعد حدود الحصار؛ لن أنسى مشهد العشب الندي النامي حول المتاريس، والأزهار بمحاذاة جنازير الدبابات، ولا يدرك من يعتلي الدبابات أن هذه الأزهار نمت من دماء شعب”.

الوطن لا يتلاشى  

يضمحل الوطن، تتلاشى حقيقته خلال الرحلة نحو منفى اختاره أو هندسه من حكَم باسمه، طوال نصف قرن من الزمن، وترتسم، مع خيوط الضوء المنسلة عبر النوافذ، هواجسُ العبور نحو فكرة لوطن، كانت ملامحه تبدو أوسع من معالم القذيفة، وأحن قليلًا من جنازير الدبابات، كل ما تبقى الآن سراب، تبدده حرائق تلتهم احتمالات اليقين بإمكانية الحياة داخل هذه البلاد، أو هذا ما تخيله مزاج المحرر الصحفي، بعد أن سقط أغلب شهود الرواية مضرجين بأحلامهم.

إلا أن منتهى عبد الرحمن أبحرت عكس خيال الكاتب، وقالت: “الوطن لن يضمحل أبدًا، هو كبير جدًا وباقٍ أكثر، هو فكرة تلامس وجدانك، وتسري في العروق، مدى الألم أيضًا كبير جدًا، ولن استخدم اللغة الآن لتجميل الواقع، أو قد يُفهم من كلامي أني أوارب عن حجم وبشاعة التهجير، ولكن ما يعزي ربما أننا ما زلنا داخل حدود الوطن، نتنفس هواءه، وسنبقى أحرارًا، ونكمل الطريق الذي بدأناه، بعيدًا عن الجغرافية. الرسالة إنسانية تحمل أمنيات شعب بوطن عادل، يقيم وزنًا لكرامة أبنائه، ولا يهديهم براميل الموت، أو تسحل دباباته أحلامهم وتحيل انتماءاتهم إلى أشلاء تجاور أبنائنا الذين قضوا جوعًا، لإيغال وحش الحصار في أرواحهم وأجسادهم، وهذا سيتحقق، والزمن لن يعود إلى الوراء”.

قد تعجز المفردات عن توصيف جريمةٍ بهذا الحجم، تشابه إلى حد بعيد النكبةَ الفلسطينيةَ، لكنها في سورية تتخذ أبعادًا أشد قسوة، لأنها تُرتكب على يد (إخوة الوطن)، وقد تكون عبارة درويش “البيوت تموت إذا غاب سكانها” أكثر الكلمات التصاقًا بوجع الراحلين توًا، وهو ما أكدته عبد الرحمن، بقولها: “بكل تأكيد، التهجير جريمة كبرى، أكبر حتى من جريمة الحصار، ولربما ينجح في قتل الكثير من مقتنيات الأمل في نفوس الراحلين، إنه أشد وطأة من الموت نفسه، من يموت ويحتضنه تراب الأزقة التي ولد وعاش فيها، سيجد ما يكفي من زهرٍ ليحنو عليه، التهجير مؤذٍ جدًا للقلب والروح، لكن بداخلنا يقينٌ بأننا سنعود، أنا لم أحمل معي شيئًا من مضايا سوى ملابسي، وأعتقد أن آخرين كثر مثلي، حين وصلنا إلى إدلب فاجأتني ابنتي التي لا يتجاوز عمرها ست سنوات بأنها تحمل حجرًا في جيبها، وعندما سألتها لماذا تحملينه أجابتني: حملته من مضايا، لأُعلم أصدقائي هنا لعبة (الشحفة) وهي معروفة في مناطقنا، حتى أطفالنا رفضوا الهجرة من ذاكرتهم، ولذلك سأستعير أيضًا عبارةً لدرويش، تقول: سقط السقوط، وأنت تعلو فكرة ويدًا وشامًا”.




المصدر