الوعر حكاية سورية كلها


نزار السهلي

كغيره من الأحياء والبلدات السورية التي أخذت حصتها من الدمار والقتل، يستكمل حي الوعر الحمصي دورة كاملة من الوحشية، باجتثاث آخر ما تبقى من سكانه الأصليين، دفعات من الدمار والحصار والمجازر وصولًا لفرض التهجير، قياسًا على المنطق والقانون ومبادئ الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان، نستطيع أن نجد آلاف الأدلة والبراهين والشواهد، لإثبات سياسة التدمير والحصار والتهجير التي انتهجها -وما زال- النظام السوري مدعومًا من حلفائه. لكن ليس المطلوب الآن إيراد الشواهد والبراهين على غطرسته واستهتاره بحياة ملايين السوريين، بل البحث عن جذور هذه الغطرسة والوظيفة التي لعبها في تفتيت وتدمير المجتمع السوري، منذ خمسة عقود وتستمر في تأديتها ضمن استراتيجية حكم بها وتحكم برقاب السوريين.

في بدايات الثورة السورية، انهمك إعلام النظام في تقديم “اعترافات المندسين”، وتقديم الروايات المختلفة التي تبعد عنه مسؤولية الجريمة، وفي الوقت ذاته لم يظهر على شاشات إعلامه أو على ألسنة مسؤولية ما يدين الشعارات الطائفية ولا المجازر التي وثقتها هواتف السوريين، بل كانت رواية الفبركات الإعلامية، وفلاشة أبو نظير إلى أستوديوهات قطر، واندفاعات الأبواق المهددة والمرعدة تبشيرًا باحتفالات نصر على سفح قاسيون، تليها رقصات تشبيحية في ساحات العباسيين والأمويين وسعد الله الجابري، بينما كانت جرعات الموت تحصد مئات الضحايا. في الصورة الخلفية كانت غطرسة النظام تعبّر عن شعورها بالتفوق على جميع السوريين مستندة إلى مظهر القوة عندها وإلى مظهر الضعف على أجساد النساء والأطفال والشبان، غطرسة وثقت بقوتها على خلق فجوة فاشية بينها وبين خصمها، أخرجت له كل عصابات الأرض من سردابها واستثمرت بها لإقناع نفسها أولًا بقدرتها على إمكانية نجاح خططها، ومن ثم إقناع العالم بأن مكاسب التخلص من السكان الأصليين يعني التخلص من “الإرهاب”.

القصير والقلمون، وداريا والزبداني والغوطتين، لها حكايات مماثلة من دروس سورية على يد الطاغية، لم يكف مسلسل التدمير والقتل بكل صنوفه، بل كان عليه استعمال أفضل الوسائل الدعائية لتصوير عمليات الحصار والتهجير بعد الدمار على أنها انتصارات، تضخيم المنجزات الفاشية التي أحرزها الأسد تتم بإسناد المجتمع الدولي وبقوتين استعماريتين، تعلمان جيدًا أن أي مظهر ضعف أو عجز يظهر على النظام سينعكس على مصالحهم المستثمرة في وجوده.

من درعا جنوبًا حتى المالكية شمالًا، ومن دير الزور شرقًا إلى اللاذقية غربًا إلى كل الجغرافيا السورية التي كانت قبل عام 2011 تحت السيطرة الأمنية والعسكرية للنظام، أسقط السوريون هذا المفهوم بأبعاده الجغرافية والاقتصادية والأمنية والمجتمعية، إعادة السيطرة بسياسة الغطرسة التدميرية على حي الوعر الحمصي تضفي ملامح متشابهة لكل المناطق الثائرة في سورية، ساهم النظام في إبرازها وطرحها دونما أي رتوش: إن صراعه مع المجتمع السوري يقتضي مواجهته، وفق المواصفات التي اتسمت ملامحها بعلامات المجازر والقصف الوحشي والحصار إلى أن توفرت له مواصفات جديدة على متابعة فرض التهجير بمباركة دولية.

لا مجال للشك في حرص القوى الداعمة لغطرسة النظام، على الاتفاق بالخطوط العريضة على عمليات الاجتثاث للسكان الأصليين، وحيّ الوعر تعبير جلي وقاس وحاد لتلك السياسة، أقسى ما فيها قدرة النظام رسم هذه السياسة منذ بداية الثورة على أرض الواقع وتنفيذها تحت بصر العالم أجمع كأنها عارض، يكفي تجاهله للمضي بخطوة أخرى، كل نواة ثائرة في سورية ينظر إليها النظام على أنها عاصمة للثورة، وكل سوري حالم بحريته ووطنه دون استبداد هو عاصمة للحرية، لم يكن ذلك سرًّا بالأصل ولا نغالي أيضا في تبسيط  الوضع والتقليل من مخاطر التحديات التي تواجهها الثورة السورية، استنادًا على النمط الذي اعتمده النظام لمواجهة المجتمع، منذ خمسة عقود.

عند هذا الحد من تسلسل الفاجعة السورية في الوعر، اشتد إلحاح السؤال الكبير: ما العمل؟ إذ من غير المعقول على فصائل المعارضة والدول “الداعمة المتباكية” على التطهير العرقي والتغيير الطائفي للمجتمع السوري أن تكون هذه التحديات لا تعنيها، وهي تعنيها في الصميم خارطة التقسيم المتبدية على الجغرافية السورية، فإذا كانت حكايات سورية المؤلمة دلت حتى الآن على اتساع رقعة الصدام مع ملايين السوريين، فإن الرؤية التاريخية لمسار نضال السوريين تؤكد دوام الصراع للتخلص من غطرسة القوة التي هشمت مجتمعهم وتسعى لتشويهه بالإرهاب الناتج عن نهم النظام بالوحشية المطلقة، وهي أساس الحكاية كلها.




المصدر