النظام بوصفه ضحيّة


ماهر مسعود

مارس نظام الأسد، منذ نشوئه، دورًا متقنًا ومبنيًا على كونه ضحيّة، وقد أصبح هذا الدور مع الوقت جزءًا أساسيًا من تكوينه ومن تصديره لنفسه ولصورته، وبقدر ما كان لهذا الدور تأثير كبير، في المستويين الداخلي والخارجي، كان له دور رمزي وغير مرئي في الوقت ذاته.

في مرحلة الأب، مثَّل نظام الأسد دورَ الضحية المركزية لـ (إسرائيل)، وقد قاتل بشراسة عزَّ نظيرها، داخل سورية وخارجها، لكي يتربع على هذا المركز وحدَه؛ فقام بتصفية جميع الضحايا الآخرين واستبعادهم من المنافسة، وأهمهم الفلسطينيون، ليمثّل وحده دور الضحية المركزية، ولا سيّما بعد خروج مصر السادات من المنافسة عبر معاهدة (كامب ديفيد). ولكي يؤدي هذا الدور أداءً ممتازًا، على المستوى العربي، كان لا بد أن يحصد امتيازات الضحية ابتزازًا لجميع الدول العربية، وعلى رأسها دول الخليج، ممولي النظام الأساسيين، منذ حرب تشرين، ثم أعدائه المفيدين خلال الثورة، دون أن ننسى ليبيا القذافي وتمويله في الثمانينيات.

رمزيًا، لعب النظام، منذ وقت مبكر، دورَ الزوجة المخلصة لزوجها الإسرائيلي (الضحية المَثَل، والمثالية أيضًا، منذ نشوئها) وقد كان كالزوجة المخلصة والمضطَهدة في آن، يضربها الزوج الإسرائيلي، متى وأين يشاء، لتحصد هي تعاطف الدول العربية واليسار العربي والغربي (وهو تعاطف تعويضي غالبًا، تتعايش فيه ثنائية العجز الذاتي والشعور بالذنب تجاه الفلسطينيين وقضيتهم)؛ وتحصد الرضى الدولي، والأميركي تحديدًا، على خضوعها والتزامها الدائم بمؤسسة الزواج القائم مع (إسرائيل).

عندما قامت الثورة السورية، قدم النظام نفسه من جديد، كضحية مركبة تستحق التعاطف على أكثر من مستوى، فهو ضحية باعتباره نظامًا أقلويًا يحمي الأقليات من أكثرية سنيَّة جاهزة للانقضاض عليه وسحقه بوصفه الأقلّي ذاك، وهو ضحية قومية باعتباره النظام القومي الوحيد المواجه لـ (إسرائيل) والإمبريالية في المنطقة والمدافع عن “شرف الأمة العربية”، وهو ضحية للإرهاب الذي لن يُتعب نفسَه بإقناع العالم بأنه من مصدر وتمويل “عربان” الخليج، حيث القناعة جاهزة ومؤسسة مسبقًا، وحتى عندما أصبحت سورية تحت الاحتلالين الروسي والإيراني، ظلّت أصوات كثيرة ترتفع حول العالم لتصدِّر النظام كضحية لهذه الدول القوية إقليميًا ودوليًا، بما يضمن تبرئته و”مسكنته” كلاعب يلعب به الأقوياء.

على الرغم من تهجير نصف الشعب السوري، والمحارق، والكيماوي، والعنف “ما بعد بعد” المعقول الذي يمارسه النظام ضد السوريين، ما زال لا يمكن التخلي عن هذا النظام، بالنسبة لحماته وأعدائه معًا، باعتباره الضحية المناسبة للجميع، الضحية التي لم يُخلَق بعد أي ضحية بديلة عنها قادرة على لعب الدور التضحوي المطلوب، ولا سيما أن ذلك البديل سيكون أكثريًا سنيًا، والأكثرية السنية لا توحي بتعاطف من أحد خارج عالمها ذاته، خاصة لأنها لم تبن مظلوميتها السنيّة المتكاملة بعد، كما أنها لا تنضوي ضمن مركزوية سنية عالمية أو محلية، لا بالمعنى الديني ولا والسياسي (على الطريقة الشيعية)؛ ما يجعل قدرتها على الضبط والانضباط والمناورة السياسية أقل وأضعف. أضف إلى ذلك تلك الصورة التي تنقلها العمليات الإرهابية حول العالم والتي تجعل الإرهاب لصيقًا بالإسلام السني، دون غيره، في الوعي العالمي التبسيطي والبعيد والمُنمَّط “ميديويًا” حدّ السذاجة.

لأن نظام الأسد كان يستبطن اللاوعي الجمعي للثقافة الأقليّة، بما يحتويه من سرديات اضطهاد وعظمة متزامنة، فقد قام “بصناعة” شخصيةِ سورية وسياستها على شاكلته، حيث كان في كل الأوقات يمارس دورًا مازوخيًا مشبعًا بروح الاضطهاد نحو الخارج، لكنه كان أسدًا مستأسدًا في الداخل وعليه. هذا الدور البارانوئي يمكن ملاحظته في تاريخ السياسة السورية منذ نشوء “سورية الحديثة” بعد “الحركة التصحيحية” حتى يومنا هذا.

في الوعي العام، من السهل أن تتعاطف مع النظام “الضحية” عندما ترى أعداءه بالصورة التي رسمها هو وحلفاؤه، أو حتى كما هي مرسومة مسبقًا في الوعي العالمي (إمبريالية أمريكية وغربية، وخليج رجعي)، وأعداء النظام “الشكليين” والمفيدين في الخارج، ينافسهم (داعش) و(النصرة) وبقية الإسلاميين في الداخل، وهؤلاء الذين يتقاسمون القوة المتوحشة من جهة، والتخلف والماضوية من جهة أخرى، يساهمون -سواء أرادوا ذلك أو لم يريدوه- في الحفاظ على صورة النظام كضحية، لكي تغيب الصورة الفظيعة والأكثر وحشية له، وتغيب معها الصورة التي تفقأ عين الشمس، وهي أنه يبزُّ جميع أعداء سورية التاريخيين والحاليين وحشية ضد البلد التي دمرها بطائراته وبراميله، والشعب الذي هجّره ومزَّقه وشرَّده في بقاع الأرض.

إن استمرار نهج السياسة الدولية، المؤَسَس منذ عهد أوباما، والقائم على الحل السياسي الأعرج؛ أي الحل القائم على افتراض ثابت أنه لا بديل عن الأسد، ليس سوى وصفة مثالية لحرب أهلية مستدامة، حيث إن الضحية تدرك أن أي خلل جذري وجوهري في دورها التضحوي سيؤدي إلى ذبحها، وإيران التي أرادت الحلول الكامل محلها على حدود “الضحية الكبرى” (إسرائيل) لن يتسنى لها هذا الدور ببساطة في ظل وجود الشركاء الأعداء: الروس والأمريكان، في الأرض والسماء، والسوريون الذين لم يعودوا كتلة سديمية واحدة لن يقبلوا بالعودة إلى الحظيرة السابقة، حتى لو استمرت الحرب أربعين عامًا قادمة.




المصدر