المعارضة السورية إلى أين؟


حسام ميرو

فرضت الحالة السورية، بعد 2011، أشكالًا وأطرًا سياسية حاولت التكيّف مع “الانتفاضة”، قامت في بدايتها انطلاقًا من أن التغيير في سورية سيكون سريعًا، وهو ما يحتاج إلى وجود معارضة سياسية، من وجوه وكيانات تستطيع ملء حالة الفراغ التي سيتركها سقوط النظام، بما فيه تنحي بشار الأسد عن السلطة، ولم يعد خافيًا على السوريين أن اللقاءات الممهدة، لتشكيل “المجلس الوطني” في إسطنبول، اتّخذت من النموذج الليبي مثالًا لها، وافترضت أن سقوط النظام السوري سيتطلب جسمًا معارضًا، مهمّته قيادة البلاد.

لقد سمع السوريون من شخصيات في سدّة المعارضة في 2011 تقديرات زمنية محددة لسقوط النظام، وقد آمنت تلك الشخصيات فعلًا أن مجريات الأحداث ستدفع رأس النظام ورموزه إلى التنحي؛ وبالتالي فإن المهمة الرئيسة للمعارضة هي إيجاد توافقات فيما بينها، تضمن لها لاحقًا أن تستلم دفة القيادة، وأن تباشر مهماتها من دمشق، وكان الإخوان المسلمون، بحكم عدد من الظروف، ومنها علاقاتهم بدول الإقليم، التنظيمَ السياسي الأكثر تنظيمًا من باقي المكونات التي انضوت تحت “المجلس الوطني”، وعكسَ سلوك الإخوان فهْم بعض دول الإقليم لعملية التغيير في سورية، وتفاؤلها في أن يكون التغيير سريعًا، خصوصًا حين أخذ “الجيش السوري” يجابه المتظاهرين بالنار.

منذ بيان جنيف1، في 30 حزيران/ يونيو 2012، بدا واضحًا أن المسألة السورية قد ذهبت نحو التدويل، وعلى الرغم من كون البيان قد عكس، بشكلٍ لا لبس فيه، أن المسألة السورية لم تعُد محض سورية، ومع ذلك فإن قوى المعارضة التي ضمّها مؤتمر توحيد المعارضة في القاهرة يومي 2 و3 يوليو/ تموز من العام نفسه (أي بعد أيام من بيان جنيف1)، لم تدرك حالة التدويل تلك، ولم ترَ فيها إشارة خطر، كي تعيد حساباتها، وتستعدّ لمرحلة نضال طويلة، وتضع بالتالي أمامها عددًا من السيناريوهات؛ لتتمكّن من التعامل معها، بل إن المؤتمرين لم يتمكّنوا من إيجاد صيغة قيادية، تنهي حالة التشرذم، وتعيد صياغة الأولويات.

في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 تشكّل “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”، وجاء تشكيله بعد فشل “المجلس الوطني” من جهة، ولاستيعاب قوى جديدة نشأت في الساحة السورية، وتحديدًا فصائل “الجيش الحر”، ولم ينجُ الكيان الجديد من الاستقطابات الإقليمية لسلفه، الاستقطابات التي برزت بحدّة لاحقًا في لحظات فاصلة، مثل انتخابات رؤساء الائتلاف، وأعضاء الهيئة السياسية، وتشكيل الحكومة السورية المؤقتة، وقد أفرزت تلك الاستقطابات الإقليمية قوى متصارعة داخل الائتلاف، أسهمت في عدم بلورة خطط عمل حقيقية، أو رؤية سياسية للتعامل مع الاحتمالات المتعددة التي أفرزها الوضع السوري المعقد.

وعلى الرغم من المناشدات الكثيرة التي أطلقها عدد من المعارضين المستقلين والكتّاب السياسيين السوريين، منذ 2012، بضرورة أن تعمل فصائل “الجيش الحر” تحت الإمرة السياسية لقيادة “الائتلاف الوطني”، إلا أن كل تلك المناشدات ذهبت أدراج الرياح، وبقي العمل الفصائلي مستقلًا عن العمل السياسي، بحيث أصبحت الفصائل المسلحة في الميدان هي صاحبة القرار الرئيس، بل إن معظمها قفز إلى بناء علاقات مستقلة مع دول الإقليم، من دون أن تمرّ تلك العلاقات تحت نظر الائتلاف أو موافقته.

إن لوحة العمل السياسي المعارض، بعد مرور أكثر من ست سنوات على بدء الانتفاضة، تبدو في صورة باهتة، خصوصًا أن اللعبة الدولية قد فرضت نفسها بشكلٍ كامل، في وقت تزداد فيه المشكلات بين دول الإقليم تعقيدًا، خصوصًا الأزمة الخليجية الناشئة مؤخرًا، الأزمة التي ستنعكس بدورها على عمل مؤسسات المعارضة التي هي أصلًا في وضع لا تُحسد عليه، وقد أدى ارتباط القوى السورية بدول الإقليم إلى اعتمادها الكلّي على تلك الدول، بحيث إنها أصبحت، إلى حدٍّ بعيد، غير قادرة على اتخاذ قرارات مستقلة؛ وهو ما سيعني بطبيعة الحال أن الكيانات المعارضة ستشهد مزيدًا من الانقسام، في الوقت الذي يتراجع فيه “العمل المسلح المعارض” لمصلحة “قوات النظام” وحلفائها.

وعلى الرغم من ملامح الفشل التي ظهرت في عمل الكيانات الواسعة، منذ 2012، إلا أن العمل السياسي بقي يدور في فلك تشكيل كيانات غير متجانسة، تجمعها توافقات الحدّ الأدنى، ولا ترتكز على كوادر حزبية، أو عمق جماهيري، وفي معظمها نشأ نتيجة ضغوطات دولية، بغرض تمرير الوقت، أو لمنح فرصة لشخصيات معارضة محددة كي تلعب دورًا، وقد تبخّرت معظم تلك الكيانات، ولم يتبقَّ منها سوى أسمائها، أو رموزها الذين يتحدثون باسمها، من دون أن تكون تلك المؤسسات موجودة فعليًا.

لقد أصبحت الحاجة ملحّة لإعادة النظر في مجمل العمل السياسي المعارض، والخروج من الصيغ المشوّهة التي أنتجت خلال السنوات السابقة، ودراسة إخفاقات التجربة، وتشريح مكامن الخلل فيها، وإعادة الاعتبار إلى أسس شرعية العمل السياسي، بوصفه استجابة لضرورات وطنية داخلية، تنبع من توصيف مطابق للواقع السوري أولًا، وليس من الصراعات الإقليمية والدولية، ومحاولة التموضع واكتساب الشرعية منها.

ربما، من المهم اليوم إعادة الاعتبار للرؤى الفكرية القادرة على إنتاج سياسات وبرامج عمل، وترسيخ أسس جديدة للعمل السياسي، والتوجّه بشكل أساسي لمخاطبة السوريين، وليس هذه الدولة أو تلك، والتحلي بالجرأة لنقد التجربة الماضية ورموزها، وهو ما يمكن أن يسهم ببدء مشوار الألف ميل نحو بناء العمل السياسي الذي يتسم بالواقعية والعقلانية بالدرجة الأولى، وليس بالرغائبية المدمّرة.




المصدر