صراع الأجندات في الرقة والبادية السورية


مركز حرمون للدراسات المعاصرة

المحتويات

مقدمة

أولًا: وقائع الميدان العسكري السوري

ثانيًا: التداعيات السياسية للتطورات العسكرية

ثالثًا: اليوم التالي في الرقة

رابعًا: خاتمة

مقدمة

دخلت معركة انتزاع السيطرة على مدينة الرقة مرحلة جديدة، إثر سيطرة (قوات سورية الديمقراطية) “قسد” المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية، وبعد إحكام الطوق على مسلحي تنظيم “داعش”، حيث تخوض منذ 6 حزيران/ يونيو معارك داخل مدينة الرقة، في إطار حملة عسكرية واسعة بدأتها قبل نحو ثمانية أشهر. غير أن المواطنين السوريين، الذين فرّوا من ساحة القتال، يشعرون بالقلق مما قد تأتي به الأيام بعد المعركة.

في سياق هذه المعركة تزداد حدة التوترات بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وبين روسيا وإيران وميليشياتها الأجنبية والنظام السوري من جهة ثانية، إذ تخشى القوى الخارجية الداعمة للأسد من المرحلة التالية للحرب على “داعش”، وتُشكّك في النيات الأميركية، غير الواضحة، التي تتركها ضحية القلق والحيرة.

تكتسب معركة الرقة أهمية كبيرة، إذ إن تحرير المدينة سيخلق معادلة جديدة في الجغرافية السورية، لعلَّ من أهم معالمها ولادة إقليم في شمال سورية تحت سيطرة “قسد” يتبع استراتيجيًا للنفوذ الأميركي المباشر؛ مقابل منطقة تمتد من حماة وسط البلاد وصولاً إلى العاصمة دمشق والساحل تحت سيطرة النظام وحليفيه الروسي والإيراني؛ ومنطقة في الشمال في شكل مثلث يمتد من جرابلس نحو الباب وإعزاز تحت سيطرة قوات “درع الفرات” برعاية مباشرة من تركيا؛ فيما تبقى منطقة في أقصى الشمالي الغربي، أي محافظة إدلب، تحت سيطرة الجماعات المسلحة؛ أو تحت الرعاية الروسية – التركية المشتركة.

أولًا: وقائع الميدان العسكري السوري

يبدو أن الاجتماع الثلاثي، الأميركي- الروسي- التركي، الذي حصل في آذار/ مارس الماضي، في أنطاليا التركية، بين رؤساء أركان الجيوش الثلاثة، كان أقرب إلى أن يكون غرفة عمليات ثلاثية عنوانها العريض تنسيق إدارة المعارك السورية، على ضوء ترسيم الحدود العسكرية في منطقة أرياف حلب على الحدود التركية، وصولًا إلى خط مجرى الفرات وانتهاء بالطريق إلى الرقة، وبعدها إلى دير الزور، بموازاة التقدم الكبير الحاصل على جبهة الموصل؛ إذ من المفترض أن تلتقي الجبهتان في وقت لاحق من هذا العام. وفي هذا السياق يبدو واضحًا أن أميركا وروسيا وإيران وتركيا، في السباق على الأدوار، تُدرك جيدًا أن مرحلة ما بعد “داعش” ستتطلب تغيير قواعد “تفادي الاشتباك”، عسكريًا وسياسيًا.

تتواصل اليوم المعارك داخل مدينة الرقة، وتحاول قوات “قسد” شق طريق لها إلى قلب المدينة، ولكنّ محاولة تقدم هذه القوات تُجابه بحائط صدّ من قبل مسلّحي التنظيم الذي يعتمد على الألغام والأنفاق، وعمليات القنص المستمرة، وقصف الأحياء التي خسرها في المدينة بقذائف الهاون، وهو ما دفع القوات المهاجمة لتثبيت نقاط السيطرة، والتقدم بحذر وبطء.

نحن اليوم أمام انخراط عسكري أميركي أكثر في المسألة السورية، ليس فقط بسلاح الطيران، بل كذلك بقوات برية يزداد عددها باطّراد، وقواعد أرضية ثابتة، وتعزيزات بأسلحة أكثر تطورًا. وقد ظهرت بوادره بتغلغل القوات الأميركية في البادية وعينها على منطقة التنف، وإقامتها مواقع عسكرية متأهبة بالقرب منها.

يهدّد نشر الولايات المتحدة منظومة راجمات صواريخ متطورة من نوع “هيمارس” في منطقة التنف السورية، ووجود مقاتلين أميركيين ونرويجيين، جيش الأسد وحلفاءه الإيرانيين، ويوجّه رسالة إلى موسكو مفادها أن واشنطن لن تُسلّم الحدود السورية– العراقية– الأردنية إلى قوات توالي سلطة الأسد وإيران، ومن ثمّ الحؤول دون الإمساك بمقاليد طريق سريع يربط بين دمشق وبغداد وطهران.

ولم تكتفِ واشنطن بذلك التكثيف العسكري الميداني في سورية، بل قامت في 19 حزيران/ يونيو بإسقاط طائرة حربية سورية قرب الرقة، وهي أول مرة تُسقط فيها طائرة حربية سورية منذ إعلانها عن تشكيل التحالف الدولي عام 2014، ما يشير إلى أن واشنطن قرّرت منع روسيا، وخصوصًا حليفها الإيراني، من السيطرة وإدارة الرقة بعد “داعش”. ما استدعى أن تُعلن روسيا تعليقها لاتفاق (منع الاشتباك) الذي يهدف إلى منع وقوع حوادث جوية مع قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في سماء سورية.

على التوازي، استعرضت روسيا قدراتها الصاروخية في 23 حزيران/ يونيو، في عملية مزدوجة هدفت إلى القضاء على تجهيزات تنظيم “داعش” في بلدة عقيربات بمحافظة حماة، إذ أطلقت ستة صواريخ مجنحة من فرقاطتين عسكريتين وغواصة تابعة للبحرية الروسية، شاركت في عملية الإطلاق من مياه البحر المتوسط.

أما إيران، التي قامت القوات الأميركية المتمترسة في قاعدة التنف العسكرية باستهداف ميليشياتها بعدة ضربات جوية، فقد واصلت تقدّمها في رقعة استراتيجية من الأرض على طول الحدود العراقية، وقال الحرس الثوري الإيراني، في 20 حزيران/ يونيو، إن طهران أسست لمرحلة جديدة من الصراع داخل سورية عبر الهجوم الصاروخي الذي شنته على مواقع تابعة لـ “داعش” في مدينة دير الزور شرقي البلاد، وأنها مستقلة في قراراتها، ليس عن أميركا والعالم فقط، بل عن روسيا أيضًا.

إيران التي لم تكن راضية عن وضع الولايات المتحدة حدًا لتمدّد ميليشيات الحشد الشعبي الموالي لها من العراق باتجاه سورية، ردّت بمحاولة فتح معبر جديد يربط العراق وسورية في منطقة وسطى تقع بين معبر التنف الجنوبي ومعبر القائم في الشمال، وإدخال مئات من المقاتلين لعراقيين الموالين لها إلى سورية.

في الواقع، تتبدل الأوضاع الميدانية في الشرق السوري في عقب دخول ميليشيات إيرانية الحدود الإدارية لمحافظة دير الزور، وتأكيد التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ترحيبه بذلك، في ظل توقعات بأن يشهد ريف المحافظة الواسع، معركة كبرى مع تنظيم “داعش”، وربما يأتي غضّ الطرف الأميركي عن توغل الميليشيات الموالية لإيران في الحدود الإدارية لمحافظة دير الزور كمحاولة من واشنطن لدفع هذه الميليشيات لصدام مع “داعش” لاستنزافها.

تسعى إيران وروسيا وأميركا وحتى القوات الكردية “قسد” إلى تأمين مصالحها وتعظيم مكاسبها في مرحلة ما بعد القضاء على “داعش”، بينما تبقى تركيا أسيرة قلق بالغ يتملّكها بهذا الصدد، كونها لم تُدعَ إلى المشاركة في معركتي الموصل والرقة، وهو ما قد يُفقدها فرصة حجز مقعد على طاولة المفاوضات التي ستُناقش مصير سورية والمنطقة برمّتها بعد القضاء على “داعش”. ولكن نقلت محطة “خبر ترك” التلفزيونية عن إبراهيم كالين، الناطق الرسمي للرئاسة التركية، قوله: “سنكون حاضرين بقوة في منطقة إدلب مع الروس، وفي الغالب روسيا وإيران ستكونان حول دمشق، ويجري إعداد آلية تشمل الأميركيين والأردن في الجنوب في منطقة درعا”. ويبدو أن التفاهمات حول مناطق “خفض التوتر” ربما تُتيح لتركيا إطلاق عملية عسكرية في شمال غربي سورية، تحمل عنوان “درع العاصي”، تشمل جانبًا من ريف حلب الغربي، وكامل محافظة إدلب. ومن غاياتها مراقبة المنطقة الأولى من بين المناطق الأربع، كما تهدف أنقرة من وراء العملية إلى وأد أي محاولة من الوحدات الكردية لتوسيع نطاق سيطرتها حول مدينة عفرين في شمال غربي مدينة حلب.

أما سلطة الأسد، فقد أرسلت تعزيزات عسكرية إلى منطقة البادية السورية، وتدور المواجهات العسكرية في ريف السويداء الشرقي وريف دمشق الشرقي، وصولًا إلى طريق دمشق- بغداد الدولي. كما تسعى، مع حليفيها روسيا وإيران، لفرض شراكة مباشرة مع التحالف الدولي في معركة انتزاع الرقة من تنظيم “داعش” من خلال التوغّل أكثر في ريف حلب الشرقي، ومن ثم دخول الحدود الإدارية لمحافظة الرقة.

في سياق توصيف وقائع الميدان السوري، لا يمكن إغفال الوضع في المنطقة الجنوبية، بعد أن صعّدت قوات الأسد وحلفاؤها غاراتها على درعا والغوطة الشرقية، وتقدمت ميدانيًا نحوهما بغطاء قصف روسي مُدمِّر من الجو، وتصعيد قوات التحالف الدولي تدخلها ضدها، الأمر الذي يهدد اتفاقية “وقف التصعيد” بالانهيار عسكريًا وما ينتج من ذلك سياسيًا.

بعد التخوّف من تكرار سيناريو حلب في درعا؛ سُرِّبت معلومات عن اتفاق روسيا وأميركا والأردن على مذكرة تفاهم تضمنت مبادئ إقامة “المنطقة الآمنة” في درعا وريفها، من ضمها بند ينص على “عدم وجود قوات غير سورية بعمق 30 كيلومترًا من حدود الأردن”، في إشارة إلى “حزب الله” وميليشيات تدعمها إيران، وهي القوات الأجنبية الوحيدة الموجودة في الجنوب السوري.

ترسم تطورات الأوضاع الميدانية سيناريوهات مفتوحة للوضع الميداني المتأزم جنوب غربي الرقة؛ وقد بدد تدخّل أميركا محاولات تقدّم قوات النظام باتجاه مدينة الطبقة التي باتت تحت سيطرة “قسد”، فيما بات من شبه المؤكد أن قوات النظام السوري لم تعد تستطيع تجاوز منطقة الرصافة باتجاه الشمال، حيث باتت محافظة الرقة منطقة نفوذ أميركي.

إذًا، قبل أن تضع معركة الرقة أوزارها، تتجه الأنظار إلى محافظة دير الزور، التي تشير التطورات الميدانية إلى أن معركة انتزاعها بالكامل من تنظيم “داعش” بدأت تلوح في الأفق، بعد أن نقل التنظيم “عاصمته” من الرقة إليها منذ نيسان/ أبريل الماضي، وأطلق عليها اسم “ولاية الخير”، وبالمقابل تتجه أرتال التنظيم المنسحبة من معركتي الموصل والرقة نحو مثلث البوكمال– الميادين– دير الزور، وهذا يشير إلى أن المعركة الأساسية لاستئصال “داعش” لم تبدأ بعد، وستكون ساحاتها في محافظة دير الزور لا الرقة، وهي المحافظة الغنية، لا سيّما بالنفط، وقد تعمد واشنطن إلى بناء تحالف جديد أو الاعتماد على شركاء معركة الرقة أنفسهم والزجّ بهم في معركة دير الزور في وقت لاحق للسيطرة عليها وضمها لمناطق النفوذ الأميركي. ويبدو أن التصميم نفسه موجود أيضًا لدى الإيرانيين ووكلائهم على الأرض.

ثانيًا: التداعيات السياسية للتطورات العسكرية

لا تُشير الأجواء العسكرية إلى اتساع رقعة “خفض التصعيد”، بل إلى “تصعيد الاختراقات”، وليست هذه أقل وطأة من الاختراقات السياسية، التي تُنذر بتصدّع كبير في خطوط خرائط التحالفات العربية والإقليمية، وإلى حدٍّ كبير الدولية أيضًا. وما يدفع لهذه القناعة أن الرئيس الأميركي ليس لديه- حتى الآن- توجهات مُعلنة بخصوص المسألة السورية وبخصوص مستقبل ودور الأطراف المتدخلة فيها؛ وأن ما يستعجله هو إنجاز نصر في معركة تحرير الرقة. كما أن بشار الأسد لا يروقه تقاسم النفوذ، بل يعتقد أن بإمكانه بسط سلطته على الرقة بعد تحريرها لتأكيد أهليته في “محاربة الإرهاب”، ولتوسيع الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها؛ مثلما ترغب حليفته إيران في المشاركة في هذا التحرير لتأكيد حضورها الكبير في الإقليم وقدرتها على إدارة شؤونه، وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا التي تريد حضورًا يضمن لها قطع أوصال مناطق سيطرة الأكراد شمالي سورية وأحلامهم شبه الانفصالية أو الانفصالية.

تفتقر التحركات الأميركية إلى خط ناظم مُعلن يرسم استراتيجية واضحة ويحدّد الأولويات وتداخلاتها، والعلاقة بسائر الفرقاء على الأرض، لا سيما روسيا وإيران. فمنذ مطلع العام الحالي ازداد التباعد بين الشعارات السياسية وبين تطبيقاتها العملية، وتفاقَم التناقض بين الإعلان المتكرر عن الرغبة في تغيير التحالفات، في الشرق الأوسط خصوصًا، وبين التعامل الآني مع الوقائع والمعطيات الميدانية. وحتى الآن، ليس للولايات المتحدة أي هدف مُعلن في سورية سوى القضاء على “داعش”، بل إن قادتها السياسيين والعسكريين يشدّدون، مع كل توتر يحصل مع القوى الأخرى المنتشرة في سورية، على أنهم لا يهدفون إلى محاربة “القوات السورية النظامية” أو الإيرانية أو الروسية، بل “داعش” فقط، غير أنهم لا يقدمون صورة واضحة عما ستفعله أميركا بعد إنجاز هذه المهمة.

بالمقابل، لا يخلو الموقف الروسي أيضًا من الارتباك. فإذا كانت روسيا واضحة في دعمها لسيطرة بشار الأسد على كامل مساحة “سورية المفيدة” غربًا، فهي أقل حماسة في دعم محاولاته للتمدّد نحو الرقة والطرق المؤدية إلى دير الزور. وجاءت تصريحات لافروف، في أعقاب إسقاط طائرة السوخوي التابعة للنظام، كأنها تعترف بالتخلّي عن “تركة ما بعد داعش” في الرقة، وربما دير الزور لاحقًا، للأميركيين، مقابل الاحتفاظ بالتملّك الحصري للأراضي الواقعة غرب نهر الفرات، ولكن يبدو أن الإيرانيين لم يصلوا إلى هذا التسليم أمام الأميركيين، وهو ما نراه في مواصلة القوات البرية التابعة للنظام والميليشيات التابعة لإيران محاولاتها المستميتة لنيل حصة ما من تركة “داعش” في الشرق.

الخلاف بين موسكو وواشنطن على الحرب وكيفية قيادتها، لا يعني استبعاد احتمال التعاون بين القوات التي يدعمها كل منهما لتحرير الرقة من “داعش”، ويبدو أن تقاسم جيش الأسد والقوات الكردية “قسد” النفوذ في مناطق سيطرتهما وتنسيق حملتهما في الرقة محتمل، وفي حال عدم اتفاقهما، يُتوقع التصعيد بين القوات التي تدعمها روسيا وتلك التي تدعمها أميركا.

من المرجّح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحمل إلى لقائه المرتقب مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في هامبورغ عدة هدايا سورية، من شأنها أن تجعل العلاقات تتطور بصورة ملحوظة، من خلال الإعلان عن توافقات جديدة، تبدأ من إعادة ترتيب أولويات كل من روسيا وأميركا في سورية، ومعها إعادة توزيع أدوار الدول الإقليمية، ولا سيّما المشاركة في الصراع السوري، إن مباشرة عبر قواتها، أو بالوكالة عبر فصائل مدعومة منها، أو تلك المتأثرة بالحرب الكارثية الجارية منذ قرابة سبعة أعوام بموجات اللجوء والنزوح، أهمها يتعلق بتجاوب روسيا مع ملامح خطة ترامب بخصوص إنشاء مناطق آمنة في سورية، والتي بدأتها بتحويرها من “مناطق منخفضة التصعيد” إلى ما يمكن اعتباره بمثابة “مناطق آمنة”، تحت وصايات أو ضمانات دولية، تكون الولايات المتحدة أحد أهم مكوّناتها، وهي تمتد جنوبًا من خط الجبهة عند الحدود مع إسرائيل، من نوى حتى الجولان المحتل غربًا، وإلى أطراف محافظة القنيطرة وريف دمشق شمالًا، علمًا أن ذلك يشمل منطقة أخرى تبدأ من منطقة التنف على الحدود مع العراق في شمال شرق البادية إلى جنوب شرق السويداء. أيضًا، يشمل ذلك، منطقة الشمال، والشمال الشرقي، حيث قوات “قسد” المدعومة أميركيًا، والتي تواصل ربط مناطقها مع بعضها، ثم التمهيد للحلّ السياسي، ووضع فصائل المعارضة جنبًا إلى جنب مع جيش النظام في جبهة واحدة لمحاربة الإرهاب.

في هذا السياق، يبدو أن روسيا مهتمة جدًا بالحفاظ على كامل سيطرتها على ما اصطلح على تسميته بـ “سورية المفيدة”، والتي قد تضم المنافذ الحدودية مع الأردن والعراق، في محاولة للحفاظ على وجود ولو شكلي ورسمي للنظام؛ مع الأخذ في الاعتبار التفاهمات الإسرائيلية- الروسية في موسكو، وفقاً لمبدأ “أمن إسرائيل”، التي لا يزعجها وجود النظام على مقربة من حدودها، لكن على أن تبقى هذه المنطقة خالية من الوجود الإيراني.

أما إيران فثمّة تطورات بدأت بالظهور على سطح الحدث السوري استدعت عملًا استباقيًا من جانبها، وتتمثل تلك التطورات في المفاوضات المستمرة بين الأميركيين والروس في العاصمة الأردنية عمّان، والتي تتخوف طهران من تحوّلها إلى مفاوضات لتقاسم النفوذ في سورية بين اللاعبين الكبار، وبالتالي، الحدّ من نفوذها في هذا البلد، وانطلاقًا من ذلك، فإن النشاطات الإيرانية، سواء في البادية بين العراق وسورية أو في درعا جنوبًا، هدفها إرباك هذه المفاوضات وإجهاض أية نتائج لا تأخذ في الاعتبار مصالحها.

تبدو إيران المستفيد الأكبر من احتمال اشتباك أميركي- روسي لأسباب عدة، من أبرزها قطع الطريق على أية تفاهمات أميركية- روسية تُضحِّي بالمعادلة الإيرانية في سورية وإفرازاتها على مشاريع إيران الإقليمية. وقد يحاول البعض في “الحرس الثوري” الإيراني استدراج المزيد من الإجراءات الأميركية العسكرية في الأجواء السورية بأمل توريط واشنطن وموسكو في الاشتباك.

إن إطالة الحرب على الرقة، كما يتضح اليوم، تتيح لـ “قسد” تعميق تعاونها مع الأميركيين وترسيخ حضورها في مناطق انتشارها الواسعة. وهي تتمتع بشبكة علاقات تتيح لها خيارات عدة إذا شعرت بتخلّي إدارة ترامب عنها، إذ يمكنها إحياء تفاهمات مع النظام، كما حصل في حلب، حيث ساهمت في طرد الفصائل المعارضة، وكما فعلت في مناطق وجبهات تخلّت فيها عن مواقعها لمصلحة النظام وحلفائه.

يتعمق التنافس على استثمار الحرب ضد “داعش” في الرقة وملء الفراغ الذي يتبع التخلص منها؛ بحيث تحتاج كل من موسكو وواشنطن إلى رسم مناطق نفوذ كل منهما بالنيران، في انتظار اتفاقهما على الحلول. وتزداد الفوضى بفعل أجندة اللاعب الإيراني، وصولًا إلى استخدامه صواريخ متوسطة المدى في قصف دير الزور ردًا على منعه من فتح الحدود لقواته. ومع أن الجانب الروسي يستفيد من هذه الأجندة تارة، فإنه يغض النظر عن لجمها على يد خصمه الأميركي تارة أخرى، لأن الحدَّ من طموحات طهران لن يتم قبل اتفاق بوتين وترامب.

وبانتظار معرفة ما إذا كانت كل من موسكو وواشنطن ستعملان على احتواء التوتر المستجد، أم أنه سيتفاقم، ثمة معطيات بشأن موعد استئناف محادثات جنيف، الذي سينعقد في وقت لا حق من تموز/ يوليو الجاري، بحسب تصريحات روسية وأممية رسمية. وفي حال لم يتأجل، فمن شأنه أن يطرح علامات استفهام حول مستقبل المسار السياسي للمسألة السورية، في ظل احتدام التنافس الدولي والإقليمي لإقامة مناطق نفوذ في سورية.

هناك رهانات مُفخخة في سورية، فإذا كان الإجماع على محاربة الإرهاب، بصرف النظر عن توظيفه لخدمة مآرب مختلفة بل ومتعارضة، هو الذي سمح للقوى المنخرطة في الحرب على “داعش” باسترجاع زمام المبادرة، فإن هذا الإجماع يحجب الرؤية عن المسؤول عما آلت إليه الأمور في سورية، وعن تحوّلها إلى معقل للجماعات الإرهابية. وهنا مكمن الخطر في المقاربة الأمنية- العسكرية للتعامل الدولي مع إرهاب “داعش”، دون إيلاء الاهتمام الجدي للإجرام الذي سلكته سلطة الأسد منذ الأيام الأولى لثورة الشعب السوري في آذار/ مارس 2011. إن اللعبة السياسية التي تتخذ من الإرهاب وقودًا قذرًا، لكن متجدّدًا، أصبحت خطرًا على حاضر سورية ومستقبلها، لأنها تعيد إنتاج الظروف السياسية والاجتماعية التي أوجدت الإرهاب، وتحول دون مواجهته بالأدوات غير العسكرية.

ثالثًا: اليوم التالي في الرقة

تسير المعركة في الرقة من دون الاتفاق على اليوم التالي هناك، ومن دون ظهور ملامح للعملية السياسية في سورية. ويبدو أن الانتهاء من “داعش” في سورية يساوي ضرورة التفاهم الدولي حول نموذج الكيان الكردي في الشمال وصيغة التعايش مع العرب، وهو ما لم يعد شأنًا داخليًا سوريًا أو يترافق مع مسارات الحل السياسي، بخاصة أن الأكراد وضعوا في جعبتهم إمكانية التعاون العسكري المزدوج مع الولايات المتحدة وروسيا في الوقت ذاته.

إن التخلّص من “داعش” يبدو وشيكًا في الرقة؛ لكن يحصل الأمر بصورة لا تُبالي بحياة السكان في هذه المدينة ومحيطها وبعمرانها من جهة، وبكونه مرشّحًا لخلق مشكلة إثنية متفجّرة في المنطقة من جهة أخرى. حيث يتصرف تنظيم “قسد”، الذي يشغل مواقع القيادة والتخطيط فيه كرد من تركيا وإيران، مع الأكثرية العربية من السكان بصورة يمتزج فيها الاستعلاء بالقسوة، خاصة عندما يجري قصفهم بالهاون والفوسفور الأبيض، والاعتداء على كرامتهم وملكياتهم.

إن تحرير مدينة الرقة يواجه عددًا من التحديات الكبيرة، إذ لا يزال التوتر العرقي مشكلة محتملة. كما أن التوتر القَبَلِيّ مصدر قلق آخر، إذ إن الاعتماد على القبائل للسيطرة على الرقة بعد تحريرها يحمل خطر الاشتباكات القبلية. كما يسعى النظام الذي طُرد من الرقة في آذار/ مارس 2013، إلى فرض نفسه في مستقبلها من جديد، من خلال توغله في ريفها الجنوبي الغربي، حيث من المرجح أن يطالب بإدارتها، أو المشاركة في ذلك.

يتزامن ذلك مع إعلان “قوات سورية الديموقراطية” التي يُشكّل الأكراد عصبها الأساس وأكثريتها الكبرى، في نيسان/ أبريل الماضي، عن تشكيل “مجلس مدني” من حواشيها والمتعاونين معها لإدارة الرقة بعد انتزاع السيطرة عليها من “داعش”، الأمر الذي جرت مجابهته برفض كبير من فعاليات الرقة المدنية والأهلية، معتبرة ما يجري “مهزلة”، ومؤكدة أنّ أبناء الرقة، وليس غيرهم، من يحدّد مصيرها بعد طرد “داعش” منها.

وفي كلّ هذه “المعمعة” السياسية والعسكرية، يَغيب ويُغيّب أي دور للمعارضة السورية، وفي هذا يتفق اللاعبون الدوليون والإقليميون، وما يمكن قوله هو أنه كلما اشتغلت المعارضة على أساس إدراكها مخاطر هذا الوضع، وأعادت صياغة أوضاعها بدلالة الوطنية السورية الجامعة وحاجة الشعب السوري إلى الدولة الحديثة، كلما كانت أكثر قدرة على فرض حقوق السوريين في معادلات الحلّ السياسي القادم. وبالعكس، كلما تخلّفت عمّا تقدم، واشتغلت بعقلية المحاصصة الضيّقة، كلما تركت سورية لقمة سائغة للتجاذبات الخارجية، فيخسر الشعب السوري وتخسر معه هذه المعارضة أيضًا.

رابعًا: خاتمة

تؤذن القضية السورية بدخول مرحلة جديدة، سيحتدم فيها الصراع كثيرًا، ويبدو أن ملامحها ستتضح أكثر فأكثر، بعد الانتهاء من “داعش” في العراق وسورية، إذ إن التخلص من هذا الكيان سيضع مختلف الأطراف وجهًا لوجه أمام استحقاقات جديدة، فإما استمرار الصراع مباشرة، أو التوصل إلى توافقات بخصوص مستقبل سورية. لكن أيَّ حل، في هذه الحال، لن يكون على قدر تضحيات الشعب السوري، ولا على قدر الآمال التي تطلّعت إليها ثورته، أي أن سورية في المستقبل ستأتي، على الأغلب، وفق ما ترسمه إرادات الأطراف الخارجية الفاعلة، ووفقًا لتوافقاتها.

الاحتكاك متوقع ما دام السباق قائمًا على تقاسم النفوذ، ويمكن لهذا السباق أن يؤدّي إلى إطالة الحرب على “داعش”، بل قد يُطيل عمر المسألة السورية بعد القضاء على التنظيم الإرهابي، وسيبقى الحلّ رهن ميدان الحرب ونتائجها، فلم يعد مآل المسألة السورية رهن تفاهم بين أميركا وروسيا، ينتظره الجميع، إذ بات لكلّ جهة في خريطة سورية دينامية خاصة ومعقدة، من الشمال إلى الجنوب مرورًا بالبادية والحدود الشرقية، فلم تعد هناك قواعد ثابتة وعامة لإدارة اللعبة.

ويبقى السؤال: هل تندلع الحرب بالأصالة بين الأميركيين من جهة والروس والإيرانيين من جهة أخرى، بصورة مباشرة، على الأراضي السورية وفي أجوائها، بعد الانتهاء من معركة الرقة؟

المرجّح أن أحدًا من القوى المذكورة لا يريد ذلك، فالمحور الروسي– الإيراني يضغط وفقًا لسياسة حافّة الهاوية، مختبرًا الحزم الأميركي في كل خطوة، والإدارة الأميركية أكثر انشغالًا بالمعارك السياسية الداخلية الدائرة حول البيت الأبيض، من كونها راغبة في الانخراط بحرب غير معروفة النتائج، بعد سنوات من سياسة الانسحاب.

لكن، كثيرًا من الأحداث الكبرى تؤكد أن إشعال نار حروب كبيرة هو مخرج للأزمات الداخلية للدول مُشعلة هذه الحروب.




المصدر