بين القمع والسرية إلى ذكرى عدنان محفوض


راتب شعبو

تركت مدينة فاترة ومسترخية؛ لألتحق بأخرى تفور بالحركة إلى الحد الذي جعلني أرى في مدينتي تلك بلدة صغيرة أو حتى قرية. هكذا تكون المدن. هذه المدينة الواسعة المكتظة التي تحتوي على كل شيء، يمكن أن تكون محيطًا مناسبًا لأحلامي، ومن مثل هذا المكان يمكن أن يكون التغيير!

كان لقاء التعارف أمام سينما الكندي. الشاب النحيل ذو الغرة الوديعة كان هناك يلهو بقلم رصاص في يده. تلك هي الإشارة. أقترب منه وأسأله: هل تعرف بهجت؟ فيجيبني على الفور: لا، أعرف جمال. هكذا تكتمل الإشارات، وكما ينفتح الباب حين يطابق المفتاح القفل، انفتح بيننا عالم دافئ من وحدة الانتماء. تعانقنا. تبادلنا الأسماء الحركية لدواعي السرية. لا شيء أكثر إثارة. الشاب الذي أكمل للتو عامه الثامن عشر، يعيد خلق حياته بكامل إرادته ووعيه. يختار بنفسه اسمًا لنفسه، لكي يتحرك به. اسمًا حركيًا. كم هو جميل ومؤثر هذا الشيء! التاريخ ينتظر هذا النوع من الناس المصممين الذين يتحركون بأسماء حركية، كي يستجيب لهم، أو قل كي ينصاع لهم.

على الفور، تحول “زياد” إلى صديق قريب، إلى أجمل صديق، تحول إلى “رفيق”، أحببت مشيته وطول قامته وضحكته وشاربيه والانخماصين الصغيرين في خديه، والابتسامة الغافية على زاوية فمه. أحببت طريقته في تحاشي المارة، وتأنيه في الحديث. أحببته وهو يضع يده على كتفي بينما نحن نقطع الشارع. لا يوجد من هو أقرب إلي منه. تربطنا معًا قناعة وهدف ومصير، والتزام جريء بما يرتبه علينا ذلك من مخاطر. يربطنا انتماء واحد. “أنا هو، هو أنا، في الحزب”، هكذا تلاعبت بمقطع قصيدة ريتسوس. اللغة أيضًا تتجدد وتمتلئ بالمعنى، حين نقول “حزب ورفيق”. هاتان المفردتان تخصّاننا، تشبهاننا، لنا، لا علاقة لهما بالكلمات الأخرى حتى، ولو كانت تشبههما في اللفظ. شتّان.

سرنا معًا في تلك الشوارع التي كنت حديث العهد بها، ولكني كنت قد هيأت نفسي سلفًا لأن أصادقها وأتماهى بها، وأرى فيها مسرح اقتحامنا لتاريخ بلدنا النائم والمؤسي. بعد قليل توقفنا وتواعدنا وافترقنا. قبل أن يمضي سألني: هل تريد شيئًا؟ (تبين لي لاحقًا أنه يختم كل لقاء بهذا السؤال) قلت: نعم، أريد قلم الرصاص الذي في يدك. فاجأه الطلب. استفاقت الابتسامة على زاوية فمه، وازداد عمق الانخماصين في خديه. أعطاني القلم. لم يمسكه بإصبعين من إحدى نهايتيه ويقدمه لي، كما هي عادة من يقدم قلمًا، بل قبض عليه بكامل قبضته، وأودعه كفي المنبسطة تحت قبضته، كمن يسلم الآخر فراشة حية يخشى أن “تطير فتذهب”. مع ذلك، طار ذلك القلم بي إلى عالم آخر، عالم جوهري بديل، يستعد لأن يخلع عنه هذا العالم الزائف الذي نعيش فيه، والذي يتبدى لعينيّ عالمًا باليًا يجب تغييره دون إبطاء، ومهما تكن التكلفة. لكن يجب أن أقول إنني كنت أشعر بالامتنان لهذا العالم البالي؛ لولاه لانتفت الحاجة إلى هذه المنظمة، هذه الروح المتمردة التي تتجلى على هيئة عدد من الشباب الذين يشكلون جماعة منظمة تريد تغيير العالم. ولولاه لانتفى سبب انضوائي في هذا النشاط الحذر الساحر الذي يجمع بين لذعة مقاربة الخطر وجلال مطاولة التاريخ.

أسير في الشارع الرئيسي في الدويلعة، أتأكد من إشارة الأمان على نافذة غرفة الاجتماع، أدخل المبنى بعد أن أتأكد من وجود نجمة صغيرة في قلب دائرة مرسومة على الجانب الأيمن من المدخل، إشارة الأمان الثانية التي كان قد اقترحها “نوّار” لزيادة الاطمئنان.

تنعشنا سرية الاجتماع، ونحن نتجادل بحماس عال وصوت خفيض. نقول ما لا يقال، ونشهر جاهزيتنا للعمل. حرية سياسية كاملة وسط هذه الكبسولة السرية المشبعة بدخان السجائر وعنفوان الشباب. غير أن مستوى الود المتبادل ومتعة الشعور بالانتماء المختار تغلب على كل شيء، لا يتفوق عليها سوى شعورنا بأن الحقيقة تشاركنا اجتماعنا، وتلهو على رؤوس أصابعنا. نحن برعم المستقبل والآخرون إما ضالون أو انتهازيون. نحن من اجتمع فينا إدراك الحقيقة والإخلاص لها معًا.

إننا نمتلك سلطة قيمية مستمدة من التخلي عن مصالحنا الشخصية ومحاذاة الخطر من أجل عمل عام. تتحول الغرفة البسيطة إلى مركز يعيد صياغة العالم، ويسبغ الشرف على من يشاء، ويسحبه ممن يشاء. نوع من الاستبداد المجرد من الوسائل، استبداد فقير، لأنه استبداد سلطة نمنحها لأنفسنا بصرف النظر عن أي اعتراف. يدور في خلدنا أن انقطاع الاعتراف عنا ناجم عن القمع، وهذا ناجم عن جدارتنا وخطورتنا على السلطات القائمة. ما ينبغي أن نثبته، نفترضه، ونوقن به، افتراضًا يقوم على أساس متين اسمه القمع. إننا ندرك سر المستقبل ولكننا ممنوعون من تحقيق ما نعرف (برنامجنا) بسبب القمع، وإننا نتعرض للقمع الشديد بقدر ما ندرك السر. القمع يخلق الكبسولة السرية، والكبسولة السرية تحمينا من القمع، ولكنها تحمي أيضًا “حقائقنا” من “التسمم بالأكسجين”؛ فتبقى حقائق مغلّفة، غير مختبرة وبعيدة عن الاستعمال. ولذلك تبقى هذه الحقائق كالأشباح التي ترفض الموت في نفوس معتنقيها.




المصدر