تأليه الإنسان الأعلى

3 آب (أغسطس - أوت)، 2017
10 minutes

عبد الهادي صالحة

ما زالت صورة الإنسان الأعلى تسكن المخيلة الأوروبية، إن الأعمال الجادة جدًا، حول النزعة التفوقية الإنسانية –نظرية الإنسان الزائد/ المتنامي– ليست هي التعبير الجديد لهذه الصورة. ثمة عدة مفاهيم فلسفية مرتبطة بقدوم الحداثة، أدت إلى ولادة المثل الأعلى فوق الإنساني: الفردية، العقلانية، والإلحاد. وكانت هذه المفاهيم الثلاثة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا. إن “الأزمنة الحديثة” هي التي أنتجت المفاهيم الضرورية لإعداد هذا المفهوم. فالفردية، بادئ ذي بدء، التي فهمت كإرادة ذاتية، وجدت منشأها، بين مفاهيم أخرى، في مقالات “مونتينيه Montaigne، وفي صياغة الكوجيتو الديكارتي في “مقال في المنهج Discours de la méthode “، حيث للمرة الأولى سيتصور الناس أنهم السبب الرئيس لأفعالهم، وأنهم لم يعودوا يتبعون أو يخضعون لأي كيان يتجاوزهم.

إذا كانت أغلب الفلسفات تربط بين كرامة الإنسان ومصيره؛ فإن بعضها لا يجد في هذه العلاقة أي ضرورة، على أساس أن مصير الإنسان بيد الإنسان، وهو الذي يحدده ولا تفرضه عليه إرادة مفارقة. في الإطار الديني، يرى الإغريق القدامى الإنسان كمواطن حر في المدينة، ولكن الآلهة تكفلت بكتابة مصيره. بالنسبة لهم الحرية هي قبل كل شيء مفهومة كحرية سياسية. بالنسبة للمسيحية، يولد المرء عبدًا للخطيئة الأصلية، ويجد خلاصه في حب الله. وتكمن حرية الإنسان في النفس المتعالية التي أودعها الله فيه، والتي تبقى حية بعد موت الجسد. تحيل الفردية إلى ممارسة التفحص الحر الذي شجع عليه الإصلاح البروتستانتي. إن تعليم العقيدة لم تعد تجهزه السلطة الإكليروسية، وأصبح كل فرد بمقدوره الوصول إلى النصوص المقدسة وإبداء رأيه فيها. ثمة اختلاف جوهري مع الحداثويين الذين يرون أن الفردية تتيح للإنسان أن يجد بداخله مصدر حريته.

يرى المفكر الرجعي جوزيف دوميستر أن البروتستانية تحمل في مبدأها روح الفوضى التي ستمضي بعد قرنين إلى الثورة الفرنسية وإلى نزعاتها الفلسفية. بالنسبة لدوميستر، إن البروتستانية تعرض للخطر أعمدة الملكية والتي هي الإيمان والسلطة، لأنها ميزت “العقل الفردي ضد العقل العام”. وبنظره، إن ممارسة التفحص الحر تحث على إعادة اتهام كل شيء، والشك بكل المبادئ التي تتيح لمجتمع أن يعمل بشكل طبيعي. أما بالنسبة لكاتب (تأملات حول فرنسا) فقد جعلت الأنوار من العقلانية دينًا جديدًا، وساهمت في تأسيس فكرة أن الإنسان يجب أن يفهم نفسه على أنه المقياس الوحيد لذاته، ويتخلى عن الأفكار الدينية المسبقة: الإيمان بخلود النفس، بالخطيئة الأصلية، بقصة الخلق، بفكرة القوة الإلهية الكلية.

هذه الثورة الفلسفية وسمت بميسمها “ملكوت الإنسان”، ومنذ ذلك الحين، أصبح في مقدور هذا الإنسان أن يركز نفسه على مصيره المحايث، وأن يتخلى عن البعد المفارق لوجوده. يرى نيتشه، أن ألفي عام من الميتافيزيقيات أبعدتنا عن المعنى العميق لطبيعتنا. وانطلاقًا من هذا السلخ، وهذا التحرر -الذي هو حقيقة اختزال إلى البعدية الواحدة للوجود– ستولد فكرة الإنسان المتفوق، الإنسان الأعلى. فإذا لم يعد الإنسان يخشى عقاب الله؛ فهو ليس بحاجة إلى احترام الأوامر الأخلاقية. كتب دوستوفسكي في (الأخوة كارامازوف): “إذا كان الله غير موجود، فكل شيء مباح”. وبما أن الإلحاد يلغي الخشية من العقاب، ويوكل كل شيء فقط إلى عدالة البشر، فإنه يضع في الوقت ذاته كل المنظومة الأخلاقية في خطر. إن الإنسان المتفوق لم يعد ممكنًا دون فكرة “موت الله”.

هذا ما يزعمه نيتشه وخلفاؤه الوجوديون الملحدون الذين يرون أن الإنسان لا يستطيع أن يسترد كرامته، إلا إذا امتلك مصيره وتخلى عن الله الذي يظن أنه يفرض عليه هذا المصير، وإذا كان نيتشه يدعو صراحة إلى “قتل الله” لإحياء الإنسان، فإن دعوة سارتر إلى تحرير الإنسان من “ربقة” الله ليست أقل صراحة؛ إذ إنه يرى أن ليس للإنسان ماهية ولا طبيعة، بل هو خالق أفكاره وأفعاله ومنشئ القيم التي تعطي لحياته جميع معانيها التي كان الله “يسلبها منه”. هذا المفهوم الجديد للإنسان -الذي طرح أن قدرته على كتابة مصيره الخاص هي مسلمة، في ما وراء الدنس الأخلاقي للخطيئة الأصلية– أفضى إلى صعود العقلانية. وبفضل إرادته وعقله استطاع الإنسان إنجاز كل ما تمناه ورفض حدود المعرفة. إن الإرادة أصبحت هي التي ستتيح للإنسان إخضاع العالم لتصوراته وتمثلاته؛ وبالتالي الانعتاق من كل ما سبقه تقليديًا: الطبيعة لإخضاعها، والله ليحل محله.

لقد راق لنيتشه أن تسحق الطبيعة الإنسان، وعدّ هذه الغلبة جوهر الحياة، ورأى أن ذات الحياة هي في الـ لا عقل، بل إنها في الفاجعة والمأساة. ثم انقلب بعدئذ يتساءل عن الحياة، وعن سبل الخلاص والنجاة. من هذا المنطلق عمل نيتشه على زرع بذور أخرى للحياة، وعلى تغيير تلك النمطية التي أرست دعائمها الأفلاطونية من جهة، ثم كرستها المسيحية من جهة أخرى، فكانت فكرة الإنسان المتفوق le surhomme مخرجًا وملاذًا لهذا التضارب المعطل لإرادة الحياة وجوهرها.

وإذا كان العقل هو مصدر القيم عند كانط؛ فإن نيتشه يرى أن إرادة السيطرة هي منشأ القيم؛ إذ إن الإنسان كائن مريد بالدرجة الأولى، وهو الذي يضفي على الأشياء القيمَ التي يريدها. وبهذا يشاطر نيتشه السفسطائيين آرائهم القائلة “إن الإنسان هو مقياس كل شيء”، ويذهب إلى تأليه الإنسان الأعلى الذي يتمرد على الله، فلا يعود يستمد منه قيمه، ويصبح حرًا لا يخضع لأي شيء، لأنه يريد أن يتجاوز نفسه وأن يرتفع إلى ما فوق القيم “القديمة”، بعد مراجعة مجموعها. هذا الإنسان المتفوق هو ابن الأرض ومعنى الأرض، الذي يحيا، والذي يجب عليه أن يكتشف الحياة الحقيقية مصدر الفرح الخلاق. وعلى هذا الإنسان أن يقوم بمهمة مزدوجة: أولًا أن يخلق نفسه، وثانيًا خلق العالم.

وإلى مثل هذا يذهب ماركس الذي يرى أن الإنسان لا يمتلك سيادته إلا إذا امتلك مصدر وجوده، أي عندما لا يرى مصدر وجوده خارجًا عنه. وعندئذ يستطيع أن يحقق طبيعته ويرضي حاجاته ويقيم مجتمع العدالة والسعادة اللتين يحلم بهما. لأن الإنسان في نظره قد بقي حتى الآن محرومًا ضمن طبيعة قاسية وفي مجتمع سيء التنظيم، تسوده روح الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتمايز الطبقات الاجتماعية واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان. ولن يبلغ الإنسان هذا المجتمع العادل السعيد إلا بالثورة التي تطيح بالطبقات وتقيم مجتمعًا بلا طبقات. وبذلك يمتلك الإنسان سيادته على الطبيعة بواسطة التقنية. وعندئذ يكون الإنسان نتيجة للعمل الذي يقوم به. إذ هو الذي يخلق نفسه بنفسه عبر التاريخ بواسطة التقنية. وهكذا يتحول الإنسان في رأيه من عبادة الله إلى عبادة الشغل، فلا يعود يتأمل العالم، من حيث هو آية من آيات الله، بل هو يحوله ويغيره ليجعل منه مقامًا له كريمًا.

يرى نيتشه أن الحياة حاجة أصيلة عميقة ملحة تستهدف التوسع والسيطرة والنماء والانتشار والغزو والاستيلاء. وأن العالم -وخاصة أوروبا- بعد وصوله للعدمية المطلقة، لا يمكن أن تنفلت منه إلا عن طريق الإنسان الأرقى le sur-homme، ويرى أن قيم العطف والشفقة والإحسان والخضوع -التي تشيد بها الحضارة المسيحية- هي قيم المغلوبين على أمرهم وقيم العبيد الذين يرفعون الضعف إلى مرتبة القيمة، مبررين بذلك عجزهم وجبنهم وجاعلين من حطتهم هونًا ومن ضعفهم صبرًا ومصابرة. ويرى أن المسيحية تحكم على الإنسانية بالتدهور والانحطاط. ولذا يجب نسف القيم المسيحية جميعًا، وإعادة القيم الطبيعية سيرتها الأولى، وبهذه الثورة يفسح المجال لمجيء الإنسان الأعلى، وهو الذي تتطلع إلى خلقه الطبيعة بأسرها، أي الحياة.

وقد أراد نيتشه، بهجومه على القيم اليهودية والمسيحية، أن ينتصر لقيم الأسياد النابعة من إرادة السيطرة، مثل القوة والشجاعة والحرب والاستسلام، لأن هذه في نظره هي القيم الحقة، والتي يعمد العبيد عند عجزهم أمامها إلى تغيير “علاماتها”؛ فيسمون الخير شرًا والشر خيرًا. وعليه فإن أخلاق العبيد ليست سوى ردة فعل، ضد انتصار الأسياد وليست فعلًا أبدًا. بينما أخلاق الإنسان الأعلى هي أخلاق تعمل وتنمو بصورة عفوية. إن سبيل نيتشه هي سبيل العنف. والعنف عنده تمرد، وفيض إضافي يتجاوز ما ينفيه بالتسامي والتصعيد. إنه وثنية جديدة هي وثنية الإنسان المحارب العنيف، الإنسان المتفوق الأعلى، ولكن دعوته إلى إسقاط قيم الحق والخير والجمال التي تأسس الفكر السقراطي عليها، والتي دعت إلى حكم العدل والمساواة بين البشر… لا بل دعوته إلى إسقاط جميع الحقائق العلمية والفلسفية والدينية، بانتظار مجيء المتفوق، وجيل جديد من الفلاسفة… هي أمر خطر، لأنه يربط مصير البشرية بالمجهول.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]