نعم، في النصّ إعجاز لا يفضي إلى العجز!


مناف الحمد

إن غياب الرابطة الوجودية، بين المسند والمسند إليه في اللغة العربية، سرّ من أسرار انطواء هذه اللغة على إمكانات إبداع هائلة؛ وتفسير ذلك أن المسند إليه، أو الموضوع، لا يستنفده المسند، أو المحمول، مهما تعدد وتكثّر؛ لغياب الرابطة التي تثبّته على معنى واحد، وتمكّن المحمول من استغراق موضوعه.

وإن في نفي المطابقة بين الوجود والإدراك الذي تمثل اللامطابقة بين المحمول والموضوع أحد أشكاله ما هو كفيل بمنح المبادرة الإنسانية الخلّاقة أقصى ما تتوخى الوصول إليه من فعالية؛ لأن إدراك العجز عن الإدراك يحثّ على استنفاد الجهد في محاولات الإدراك التي تتراكب فوق بعضها في سيرورة تقدم معرفيّ لا تنتهي.

وهي محاولات تُصنع فيها الحقيقة صنعًا، من خلال التشاكل بين الرموز (أعيان الأسماء)، والمرموزات (أعيان المسميّات) الذي تنتجه الفعالية الإنسانية.

هذه الحقيقة تجعل لغة القرآن التي تمثّل الأنموذج الأسمى لاستثمار اللغة العربية ذات فضاءات لامتناهية للمعاني التي لا يطابق فيها الدالّ مدلوله، وهو ما تعزّزه حقائق أخرى، وإليك بيان ذلك باختصار:

إن البلاغة العربية لا تستحق هذا الاسم، ما لم تنطوِ على ما أسماه (عبد القاهر الجرجاني) “المعاني الثواني”، وهي معانٍ مشتقّة من معانٍ أولى، وأبرز أمثلتها المعاني المشتقة من الكناية، والاستعارة، والتمثيل:

ففي الكناية التي هي: “لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه”، كقولك: “فلان طويل النجاد” تريد أنه طويل القامة، وقولك: “كثير رماد القدر” كناية عن كثرة القِرى المعبر عن الكرم.  (والصفتان الأخيرتان تستلزمان الأوليتان)، استخدم اللازم ليدل على الملزوم؛ من أجل إثبات معناه.

وفي الاستعارة، وهي: “لفظ استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة”، كقولك: “رأيت أسدًا”، وهو تشبيه حُذف منه المشبه، واستغني عنه بالمشبه به؛ لوجود الشبه بينهما في الشجاعة وصف المشبه بالمشبه به؛ لإثبات معنى الشجاعة.

وفي التمثيل، وهو: “اللفظ المركب المستعمل في غير ما وضع له، لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقيّ”، كقولك: “يقدم رجلًا ويؤخر أخرى” استُخدم مجاز لوصف المرء المتردد بتعبير أكثر قدرة على إثبات معنى التردّد.

والمعاني الثواني كلها التي تعبر عنها الأساليب السابقة معانٍ يستدل عليها بمعنى اللفظ، فالمراد هو المعقول لا اللفظ، وهو ما عبّر عنه التعبير الأبلغ (عبد القاهر الجرجاني):

“فقد زال الشك وارتفع في أن طريق العلم بما يراد إثباته والخبر به هذه الأجناس الثلاثة: التي هي الكناية والاستعارة والتمثيل هو المعقول دون اللفظ، من حيث يكون القصد بالإثبات فيها إلى معنى ليس هو اللفظ، ولكنه معنى يستدل بمعنى اللفظ عليه” (الجرجاني، دلائل الإعجاز، 441، 442).

والمقصود من هذا التوضيح الوصول إلى مفهوم اللاتناهي الذي تنطوي عليه نظرية المعنى في البلاغة العربية، فالمعاني الثواني هذه لا تتعلق بحقائق الأشياء، وإلا لتوقفت سلسلة اشتقاق المعاني عند حدّ معين، ولكنها تتعلق بإثبات المعنى، وهو ما يجعلها سمة ماهوية للبلاغة؛ ففي إثبات المعنى في الكناية مثلًا مزية لا تكون للتصريح؛ لأن “كل عاقل يعلم -إذا رجع إلى نفسه- أن إثبات دليلها أبلغ في الدعوى من أن تجيء إليها، فتثبتها هكذا ساذجًا غفلًا” (دلائل الإعجاز، ص. 306).

ولما كان التعلق بالإثبات في فعل التعبير غير المباشر عنها، ولما كان قطع سلسلة اشتقاق المعاني الممكن اشتقاقها فعلًا ذريعيًا يراد به الوصول إلى اتفاق بين باثٍ ومتلقٍ، فإن الاشتقاق يكون لا متناهيًا في النصّ القرآني المتعلق بمفهوم المطلق؛ لأنه غير قابل للتحديد ليس في ذاته، بل بسبب محدودية علم الإنسان، وهو لا متناه بذاته بالفعل، لا بنسبة علم الإنسان إليه.

هذا اللاتناهي بالفعل في الذات الإلهية يقابله لا تناه بالقوة في الإدراك الإنساني، وقد عبّر عنه تعبيرًا متميزًا (ابن سينا) بقوله:

“ولأن في قوة النفس أن تعقل وتعقل أنها عقلت وتعقل أنها عقلت أنها عقلت، وأن تركب إضافات في إضافات وتجعل للشيء الواحد أحوالًا مختلفة من المناسبات إلى غير النهاية بالقوة؛ فيجب ألا يكون لهذه الصور العقلية المترتب بعضها فوق بعض ويلزم أن تذهب إلى غير النهاية لكن تكون بالقوة لا بالفعل، لأنها لا تكون بالفعل إلا عند الله وحده، وهي علة الإعجاز القرآني، لأن الله ضمنه آثار صفاته جميعًا”. (ابن سينا، إلهيات الشفاء، ص. 210).

وهو لا تناهٍ في مدرَك المدرَك يقابله لا تناهٍ في معنى المعنى:

“وهذا اللا تناهي بالقوة عند الإنسان في مدرك المدرك الذي لا ينتهي هو عينه اللاتناهي بالقوة في معنى المعنى في الكناية والاستعارة والتمثيل، فعلاقة اللزوم في الكناية لا متناهية بالقوة لأن الموجودات مترابطة كلها، ولا بد أن ينعكس ترابطها على أسمائها”. (انظر: أبو يعرب المرزوقي، في العلاقة بين الشعر المطلق والإعجاز القرآني، ص. 32).

وعلة اللا تناهي بالقوة في الاستعارة والتمثيل أن علاقة الشبه موجودة بين جميع الموجودات؛ فكلّ موجود له وجه شبه مع جميعها، وهو ما لا بد أن يتعكس على أسمائها.

إن اللا متناهي بالقوة دائب البحث عن التناهي الذي لا يتحقق؛ لأن حصوله غير ممكن ما دام المعنى الذي يراد تحقيقه ليس محددًا، ولا متناهٍ بذاته، كما أشرنا آنفًا.

إن الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويل المتشابه -بحسب قراءة للآية: {مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} (آل عمران، آية 7)- لا يمكن لعلمهم أن يطابق علمَ الله، ولكن تأويلهم الذي يذهب من معنى إلى معنى بلا تناهٍ -في محاولة لتحصيل معنى نهائيّ يمثل غاية غير مدركة- يجعل من العلاقة، بين اللا تناهي بالقوة، واللاتناهي بالفعل، علاقة تمنع التطابق المستحيل الذي يقتل المبادرة الإنسانية، والاجتهاد الخلاق، ويفتح النصّ على معانٍ متجدّدة، خصوصًا أن هذا النصّ يخترق الاحتمال كلّ مستويات فعله اللغوي ما عدا واحدًا منها؛ فمستويات الفعل اللغويّ التي حددها الأصوليون في النصّ القرآنيّ:

(النصّ، والظاهر، والمجمل، والمؤول). والنص رجحان من دون احتمال، والظاهر رجحان مع احتمال، والمؤوّل رجوح مع احتمال، والمجمل احتمال مع تساوٍ.

وواضح أن الاحتمال يخترق مستويات الفعل اللغويّ كلّها ما عدا واحدًا، وهو -في نظر جمهور يعتدّ به من العلماء- نادرٌ، وقليل العدد، وهو ما يجعل النصّ مفتوحًا على تأويلات تتفاوت، بحسب مخزون المؤوّل، وقدراته.

من هذا العرض، نريد أن نخلص إلى نتيجة، وهي: أن الفجوة بين اللامتناهيين تمنع المطابقة، وتقف أمام جوهرة الكليّ الذي يغلق الباب أمام التكثير الدائم لأفراد العموم.

وإلى أن التأويل اللامتناهي الذي يفرضه غياب الرابطة الوجودية، واستحالة استنفاد المحمولات لموضوعاتها، وخصوصًا عندما يكون الموضوع غير قابل للتحديد، ولا متناهيًا، والاحتمال الذي يخترق النصّ، معظمه، يجعل تعددية الفهم واقعًا مفروضًا، لا مثالًا يرنو إليه حالمون.

ولكن تجدر الإشارة إلى أن اللاتناهي في التأويل لا يعني فوضى تأويلية يضرب فيها بسهم كلّ متكلف، وإنما هي لا نهائية في التأويل لا يستطيع ولوج حقلها إلا من امتلكوا أدوات، ومؤهلات محددة، ومن أدركوا أن النصّ المقدس -مع فتحه لهذا اللا تناهي في التأويل- يظلّ عصيًّا على التحوّل إلى أداة يعبث بها كلّ قارئ؛ لأن لواضعه قصدًا بلا شك؛ ولأن لقارئه مهمة استخلافية تفرض عليه البحث الدائم عن هذا القصد.




المصدر