لست وحدك أيها الهندي الأحمر


جمال الشوفي

من البروة، في قضاء الجليل، القرية الفلسطينية التي هجّر وأهله منها عام 1948، وحين عادوا إليها متسللين، عام 1949؛ وجدوها مدمرة، كما معظم القرى والبلدات السورية اليوم، وقد تم تحويلها إلى مزرعة إسرائيلية إلى كونية إنسانية عامة، تسكن روح وعقل ونبض المدن ورونقها الثقافي والأدبي المحدّث؛ فبين 13 آذار/ مارس 1941 و 9 آب/ أغسطس 2008، عاش محمود درويش، طفلًا مهجرًا، وسياسيًا ملتزمًا ومرتبطًا بالأرض والقضية والوطن والثورة، وشاعرًا تدرج في مستويات اللغة والكلمة، من الوصفية القريبة لقريته وقضيته إلى الكونية والإنسانية العامة في رمزيته الكثيفة.

منذ قرر محمود درويش أن “وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر”؛ غير مسار أبنائه الذين “سيأتون بعد صيف”، وفتح في محراب اللغة ما كان عصيًا على الفكر إنتاجه؛ فحين أراد للغة أن تتجاوز حدود الغفلة والدهشة والاستنكار والارتجالية والانتقال من مرثية المفتاح وبوابة الدار الحق، تحول إلى نقل قضية الشعب الفلسطيني من قضية محلية استيطانية، إلى قضية كونية تجتاح الرأي العام العالمي، بعدما كانت قضية اليهود والمذبحة اليهودية هي التي تجتاح الرأي العام العالمي. حينذاك أصبحت قضية الشعب الفلسطيني كما قضية الهندي الأحمر، قضية كونية عالمية تكسب تعاطف القلوب والمنظمات المدنية وحقوق الإنسان العالمية؛ وهذه ليست معجزة اليوم، إذا أردناها قضية تتجاوز مجرد استنكاراتنا لمظلوميتنا في دمار سورية، وأخذنا بناصية الكلمة غير مكتفين بلغة التحريض والتجييش، وهذا سؤال في السياسة وضروراتها واجب طرحه اليوم؟

الثورة والوطن والأنوثة مكونات رمزية ثلاث، حولها محمود درويش من لغة مباشرية تخص المجتمع الفلسطيني، إلى مقومات ثورة في اللغة والشعر، إلى مكونات مفاهيمية محدثة في عالم الفكر والأدب؛ فقد “جبل” محمود درويش معاناة الفلسطينيين في قارورة شعرية عامة ميزت وجوده وحضوره اليومي في الثورة والوطن؛ فكانت لغة الحنين المباشرية المريرة، ومعظم السوريين يعانونها اليوم، لغة تحدي وإصرار على الاستمرار والحياة “أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي، وأعشق عمري لأني، إذا مت يومًا أخشى من دمع أمي”؛ وإلى رفض علني للتصالح واستبدال القضية بمجرد كرسي أو سلطة كما يحبذ عباس أو هنية، كما معظم سياسيينا السوريين معارضة ومولاة، اليوم أن يعيشوها في شبهة نزوة في الحكم ليس إلا: “لا تصالح ولو توَّجوك بتاج الإمارة، كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ؟ وكيف تصير المليكَ، كيف تنظر في يد من صافحوك، فلا تبصر الدم”. والسلطة عند درويش أقل من وطن وأقل من دولة، دولة كان يرنو لإعادة تحقيقها لا بسلاح المقاومة فقط، بل بسلاح الكلمة وكسب مساحة الرأي العام العالمي وأحقية القضية، فهل يدرك معظم سياسيينا هذا المعنى؟!

ليس هذا وحسب، بل تتحول معه قضية التشرد والتهجير إلى قضية وجودية في فحوى سؤالها وحضورها لا تقلّ شأنًا عن فلسفة كيركجارد الوجودية أو سارتر وغيرهم في مواجهة آلة القتل والموت الجماعي في الحروب، وتصبح “ذات” رمزية كبرى في معنى الموت والحياة “وغابةُ الصفصافِ لم تزلْ تعانقُ الرياحْ، ماذا جنينا نحنُ يا أماهْ؟ حتّى نموتَ مرّتين، فمرّةً نموتُ في الحياة، ومرةً نموتُ عندَ الموتْ”.

التجاوز المعرفي، عند محمود درويش، ليس انسلاخًا من محليته ومأساته، وأقرانه من الفلسطينيين، وليس انغلاقًا أو اكتفاءً في بث شعر ألم الحصار والمنفى والحنين، فلم يكتف بها زادًا شعريًا فقط، بل ارتقى معرفيًا معها إلى قضية الإنسان العام وسؤال وجوده ومعناه في الكون واللحظة، وقد تكاثفت رمزيته في صورة الأنثى، الضحية الأكبر سياسيًا ومجتمعيًا لتصبح الحياة حينها أضحوكة، مجرد أضحوكة زاهدة، حين تتكاثر ألوان المأساة وعدمية الحياة “فسأدخل في شجر التوت، حيث تحوّلني دودة القزّ خيط حرير، فأدخل في إبرة امرأة من نساء الأساطير، ثمّ أطير كشال مع الريح، والتاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطالهم”، هي فلسفة يعتبرها الكثيرون واهمة، ميتافيزيقية، فكرانية متعالية، وينسون أنها في العمق تعبير رمزي عن حياة مادية تآكلت فيها القيم واستبيحت فيها الحياة، حتى أصبحت الحياة ذاتها التي من الممكن أن نعيشها على نحو طبيعي، مجرد لعبة تافهة هي ذات متأملة، فـ “في اللامبالاة فلسفة، إنها صفة من صفاة الأمل، ولنا أحلامنا الصغرى، كأن نصحو من النوم معافين من الخيبة، لم نحلم بأشياء عصية، نحن أحياء وباقون، وللحلم بقية”.

وللحلم بقية، بل قيمة معرفية عليا تجتاح نوباتها كلية الإنسان في بحثه الدؤوب عن معنى حضوره في الكون، منذ جلجامش في قصة الخلود إلى حضور الإنسان في قيمة العمل، إلى القيم الديمقراطية والتحررية التي يقتل على مذبحها مئات الآلاف من السوريين اليوم! الترميز والرمزية كمحتوى مفهومي وفكري كثيف، يتضمن المعنى والروح والهوية على شكل مفهوم قابل أن يصبح عنوانًا زمانيًا ومكانيًا، ليس محليًا وحسب، بل إنسانيًا عامًا، هو اللحظة الكونية الفارقة في مفاصل وتوضعات التاريخ البشري حين يصبح كونيًا: رمزية الحب والخلود في الأسطورة، كونية الله (المطلق) والأخلاق في الأديان، والحرية في فكر عصر؛ واليوم يعبر بها الدرويش، كما يعبر بها السوريون، إلى رمزية الهدم وتحطيم الأصنام، ففكرانية الفعل اليومي واجتهاد القدرة والصبر تجلت في الربيع العربي والثورة السورية، في كسر الأطواق والقدرة على التحرر من أصنامنا؛ كسر الأطواق هذه هي الإبحار في بحر المعرفة واللغة، والانتقال من أسر الإنسان في قفص سلطوي “مؤقنم” أو ديني مبهم أو محلي غرائزي لا ينتج إلا التقوقع، هو معنى الثورة والروح الشعرية التي يرتلها الدرويش، هي الإبحار في ضرورات التخصص ونماء فروعه العلمية المتعددة واحتلالها مكان الصدارة في ثقافة الحداثة وما بعدها، والسوريون اليوم يجارونها في انبساطها وتوقعنها، لكنها -ويا للأسف- إلى اليوم فردية الهوى والروح، كونها لم تتمثل في وطن بعد! كسر الأطواق هي نقطة التقاء قيم الحرية وعَلمانيتها وديمقراطيتها السياسية وحرية الفرد وإطلاق إمكانيته في الكون إنسانًا كما يريد “سأصير يومًا ما أريد، سأصير يومًا طائرًا، وأسلّ من عدمي وجودي، كلّما احترق الجناحان اقتربت من الحقيقة، وانبعثت من الرماد، أنا حوار الحالمين، عزفت عن جسدي وعن نفسي لأكمل رحلتي الأولى إلى المعنى، فأحرقني وغاب، أنا الغياب، أنا السماويّ الطريد”.

لا تكفيني الجمل ولا الكلمات في حضور الدرويش، إنما استرق اللحظة لتكثيف المعنى واستعارة رمزية الهوية والإعلاء من قيمة الوجود الفعلي للإنسان، فأنا لست وحيدًا كما درويش، وهذه الـ “أنا” سورية المنبع والهوية، فردانية الوجود المخلق للقيم والاستمرارية، مهما أتاها الخذلان والطعن من الخلف مرات ومرات “إن سهمًا أتاني من الخلف، سوف يجيئك من ألف خلف، فالدم -الآن- صار وسامًا وشارة، وأنت فارسُ هذا الزمان الوحيد، وسواك، المسوخ”، أجل أيها السوري “الدرويش” أنت الفارس الوحيد والبقية من بني ساسة الكسب والنفعية المحض واللعب على حبال الكلمات، قومية كانت أو ماركسية، ممانعة كانت أو مقاومة، ليسوا سوى المسخ، والتاريخ هو قيمة الوجود، والمعنى كما أراده الدرويش يومًا.




المصدر