الثقافة باعتبارها همًا سياسيًا!


جبر الشوفي

كرّس الاستبداد السياسي، عبر ممارساته الدائمة للهيمنة على الوعي العام، وتجييره لخدمة سياساته وجعله تابعًا له، مفهومًا مفادُه أن الثقافة والسياسة، ومن خلفهما المثقف ورجل السياسة (السلطة)، خصمان متنافسان، وليسا شريكين متكاملين، يفترض أنهما يعملان في أساليب وأدوات متباينة، ولكنهما يصبان في حقل إنساني ووطني واحد، لذا يتجه رجل السياسة، في هذه الأنظمة، إلى إخضاع المثقف وإقناعه، بأنه هو وحده الحامل والحامي للمشروع التحرري والتنموي الوطني، والحارس لقيم الأمة وطموحاتها وثقافتها؛ وبذلك يسحب من يد المثقف أي إمكانية للمخالفة، ويجعلها مساوية للخيانة، ووفقًا لهذه القاعدة، يوزع الحاكم المثقفين إلى دائرتين مغلقتين: دائرة المثقف الموالي والمنسجم مع سياساته، وهو هنا مثقف مأزوم وعصابي، يعي حقيقة تابعيته وتخليه عن حريته ووجدانه مقابل أمنه ولقمة عيشه. ودائرة المثقف الخصم التي تستوجب الشك والملاحقة ومحاولات التطويع، وهي دائرة توفر -بأساليبها- المناخ المناسب لنمو عصابية المثقف المأزوم أيضًا، حيث يدفع به قلقه وعصابيته أكثر فأكثر، إما إلى موقع الدنكشوت أو إلى موقف المتجاهل العابث أو المنطوي واللامسؤول، لنصل إلى نتيجة متشابهة في الفريقين، حيث يغدو الخصام والحوار بينهما -إن وجد- محكومًا بمزاج أقرب إلى المناطحة وكسر القرن، بعيدًا عن طبيعة الحوار بين الحرية والكرامة وضدهما!

إذا كانت الثقافة -كمصطلح توصيفي- تذهب إلى مجموعة من النشاطات والفعاليات الإبداعية التي تدخل فيها الآداب والفنون والعلوم والفلسفة والعقيدة والعادات والتقاليد، وغيرها مما يستجد في هذه المجالات؛ فإنها (الثقافة) تكاد تشغل كل المساحات غير المشغولة بالحاجات المادية المباشرة في حياة المجتمعات الإنسانية، كما أنها قد تعمل -أيضًا- حتى في هذه الحاجات المادية المباشرة بطريقة أو بأخرى، لتغدو عادات الطعام والشراب والملبس والسلوكيات اليومية في دائرة الثقافة، وتغدو هذه بمجملها، وما قد يضاف إليها من تراث، من المكونات الرئيسية لبناء الهوية الثقافية، التي تحدد مدى تطور الجماعة أو الأمة ومستواها الحضاري؛ إذ ليس هناك ما هو أهم من الثقافة بمدلولها الإبداعي والواسع، من معايير للتمييز -حضاريًا- بين الشعوب والأمم، ولا سيما بعدما غدت التكنولوجيا متداولة وسهلة المنال، ولا تخص مبدعيها وحدهم، لذا بات من الواضح أنّ الثقافة هي القطاع الحيوي الأهمّ الذي يعطي للحياة وللمجتمعات معنًى، يتناسب طردًا مع مستوى استقلال وإبداع هذه الثقافة أو مدى ضمورها وتابعيتها أو تقليديتها!

ولكن رغم عمومية هذا المجال الحيوي المسمى بـ “القوة الناعمة” اصطلاحًا، ورغم اتساع آفاقه، ما زال التعاطي الرسمي والمصطلحي مع الثقافة يذهب إلى ثقافة الكتاب والصحافة قراءة وإنتاجًا، والوسائل الإعلامية السمعية والبصرية وإلى السينما والمسرح، وغيرها من الفعاليات المؤثرة مباشرة، أو بالتأثير البطيء غير المباشر، ويهمل المهارات والثقافات الاجتماعية الأخرى، وما ذلك إلا لكون هذه المجالات شديدة الارتباط بمسألة الحرية، ومسألة بناء الشخصية الفردانية المستقلة، وهذا مما يخيف ويقلق السلطتين: السلطة السياسية، والسلطة المجتمعية التقليدية مع كل موروثاتها العقائدية المستمرة فيها، منذ مجتمع ما قبل الدولة، وكل ما راكمته مراحل التطور غير المتوافق وغير المنسجم من تشوهات، بين آفاق تطوره المتسارع تكنولوجيًا، وبطء علاقات الإنتاج، وما تقتضيه من تطورات في الجانب الأخلاقي والقيمي الإنساني، فكلاهما -سلطة السياسة وسلطة المجتمع- يميل بل يعمل بوعي أو من دون وعي، على ثبات الشروط المواتية لاستمراره، بلا نزاعات ولا خضات، ليظلّ بالمستطاع التحكم بالتغيير والتحوّل الطبيعيين، في المجالين السياسي والاجتماعي المتصف بالبطء أو المراوحة، بينما تجري الثقافة وتتطور بسرعة أكبر بما لايقاس.

والصحيح أن الثقافة والمثقفين هم حملة لواء التغيير السياسي والأخلاقي للنخبة الحاكمة، لا بفضل كونهم نخبة منتقاة ومستعلية على مجتمعها، بل بفضل ما تمتلكه من مؤهلات ثقافية ومهنية وقدرة على الاستقطاب والتنظيم، عبر الانخراط في مجتمعها والتعبير الواعي والموضوعي عن طموحاته وتطلعاته، وحين تولي أهمية خاصة لقطاع واسع من متوسطي الثقافة، أو ما يسمى بالوسط الثقافي، وهم شرائح واسعة من المعلمين والمهندسين والأطباء والمحامين والفنانيين وضباط الجيش وغيرهم؛ وذلك لأن هذا الوسط الثقافي/ الاجتماعي يشكل جسر العبور الناقل لثقافة التغيير، وهو بنية تحتية وركيزة أساسية للتوازن والاستقرار، وبه ومنه يتم رفد النخبة وحفظ خط سير المجتمع الهادئ والمتوازن والمتدرج، نحو التقدم والارتقاء، وحمايته من التطرف والغلو، علمًا أن هذا الدور للبنية الوسيطة، يرتبط أولًا وأخيرًا، بمدى بلورة هذه الطليعة لمشروعها التنموي الشامل، وذلك لأنّ غياب هذا المشروع أو فشله، سيؤدي حكمًا إلى المزيد من التخبط والتشوش والضياع، وقد يقود إلى مزيد من التطرف، وهو ما حدث عندنا في الثورة السورية، منذ أكثر من ست سنوات، بتضافر مجموعة متراكبة من الأسباب الموضوعية والذاتية، والتي كان أساسها غياب الطبقة الوسطى التي ألحقها نظام الأسد، منذ أحداث الثمانينيات -بشكل شبه نهائي- بالبرجوازية البيرقراطية الناشئة؛ فتخلّقت بأخلاقه وفسدت بفساده، وغدت مهمشة ملحقة هزيلة في ذيل النظام الاستبدادي، وفقدت دورها التاريخي.

وقد يقع على كاهل النخبة الطليعية مسؤولية نسف الحواجز المصطنعة غالبًا، بين نخب علمانية ونخب دينية إيمانية طامحة ومؤمنة بالتغيير، وطمأنتها لتحديث خطابها، حتى لا تترك لمثقفي الخطابة الانفعالية الدعوية أن يحتلوا المنابر، ويجيروا الصفوف ويحشدوها خلف النخب الساعية لإقامة السياسة على ليّ عنق النصوص الدينية والشرعية، لتتناسب مع طموحاتهم في إقامة سلطات التغلّب والأمر الواقع، وبذا تلعب الثقافة دورها الريادي، باعتبارها فعالية مفتوحة على التبدّل والتطوّر وتجاوز الحواجز المنيعة المصطنعة كذلك، بين السياسة المثقفة والثقافة السياسية، من أجل أن تغدو السياسة تحصيلًا وتنفيذًا لثقافات اجتماعية وسياسية عميقة، تشكل الرؤية النظرية أوالأيديولوجيا السياسية، بوصفها محيطًا ومناخًا ومنهلًا للسياسة، وكل ما يخدم مسارها، ثم لتضيف عليه وتبلوره وتغنيه، بما يجعله برنامجًا مستساغًا ومرغوبًا، يتوافق بشدة مع المصالح المادية والروحية للأمة أو للجماعة، وذلك على الرغم من ظهور السياسة، كفعل يومي حياتي، بمظهر الغريب عن الثقافة والبعيد عنها، من هنا كانت إضافة غرامشي إلى الثقافة السياسية مصطلح “المثقف العضوي”، وتوصيفه بأنه صاحب المشروع التغييري الجامع بين الإصلاح الثقافي والأخلاقي، والقادر على هزيمة الكتلة اليمينة، بحيث لا يقتصر دور المثقف على فصاحته وقدرته على تحريك العواطف والانفعالات، بل يتجاوزها إلى الاندماج بالحياة العملية وقدرته على الإقناع والتنظيم، من دون أن يذهب بنا إلى مفهوم النخبة الاستعلائي والمنقطع عن المجتمع.




المصدر