عواء الضحيّة عواء الجلاد


القدس العربي

في مقال له في صحيفة «الاندبندنت» البريطانية أعلن الصحافي روبرت فيسك انتصار نظام بشّار الأسد. لكن ما فات الصحافي الحصيف هو أن ما يسمى انتصارا جاء تتويجا لانتصارات صنعها فرقاء القتال في سوريا على خصم واحد هو الشعب السوري وعلى المدن والنواحي السورية المدمرة كلها.
السؤال ليس عن الانتصار بل عن معناه، وحين نسأل عن المعنى نكتشف أننا أمام الخواء الشامل. حين تصير سوريا بلدا محتلًا من قوى خارجية، وحين يسود الخراب كل مكان، يصير الكلام عن الانتصارات مجرد أكذوبة.
والانتصارات في سوريا بدأت حين اجتاح أرض الشام الغزاة من كل حدب وصوب. حزب الله انتصر في القصير وداعش انتصر في دير الزور والرقة والنصرة انتصرت في إدلب. القوى الخارجية التي أتت كي تحتل سوريا، استطاعت التسلل من ثقوب الوحشية المفرطة التي تعامل بها النظام مع الاحتجاجات الشعبية السلمية، لتحقق انتصاراتها عبر تعميم الخراب والإبادة والتهجير.
القوى الجهادية الأصولية انتصرت على الجيش السوري الحرّ في أكثر من مكان، ونجحت في تفكيكه، والمليشيات الشيعية بدأت مسلسل فتوحاتها في القصير دفاعًا عن «القرى الشيعية» المحاذية للبنان، بعدما نجحت في إنقاذ «زينب من السبي». وبدا أن هناك ما يشبه التناغم الموضوعي بين النظام وحلفائه الأصوليين الشيعة من جهة، وأعدائه الأصوليين الجهاديين السنّة من جهة ثانية، وكان هدف الطرفين إلغاء الشعب السوري وإخراجه من السياسة ومن الجغرافيا. مِن قتل غياث مطر في داريا 10 كانون الأول / ديسمبر 2011 على أيدي المخابرات السورية في بدايات الثورة، إلى خطف رزان زيتونة ورفاقها سميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي في 9 كانون الأول / ديسمبر 2013 على أيدي جيش الإسلام في دوما.
هنا يجب أن نسجل نقطة دهاء لآلة القمع السورية ومؤسسها حافظ الأسد، التي استطاعت أن تنسج علاقات دولية بالغة الالتباس والدقة سمحت بتمرير المذبحة ضد الثورة المدنية، ثم تلاعبت بالصراع المسلح بأقصى ما تملكه من كلبية، إلى أن بدا عليها الإنهاك، فجاء الجيش الروسي ليقلب الطاولة، بتواطؤ أمريكي يصل إلى حد التناغم.
المنتصرون في الجهتين: تركيا ودول الخليج بتواطؤ أمريكي مقنن من جهة وروسيا وإيران ومليشياتها من جهة أخرى، دخلوا اليوم في مرحلة جديدة من الصراع الوحشي بينهم، بينما يقف السوريون ذكورا وإناثا خارج المعادلة، يشهدون موتهم وتهجيرهم وتدمير بلادهم.
كيف يكون أي طرف سوري منتصرا في بلاد محتلة؟
هذا هو السؤال السوري بل العربي الكبير، كيف تستعيد هذه البلاد استقلالها بعدما أوصلها الاستبداد إلى هاوية الاحتلال مِن قبل قوى خارجية.
في مقال نشر في «الجمهورية» 5 ايلول / سبتمبر الحالي كتب مالك داغستاني جزءا من تجربته في سجن «الفرع 235 – فرع فلسطين» التابع للمخابرات العسكرية السورية بعنوان: «عواء الرجل الأوروبي». يشهد الداغستاني على عواء الضحيّة، الضحيّة تفقد قدرتها على الكلام، فتصير الحروف أصواتا متقطعة لا معنى لها.
عندما يصير الصوت عواءً، تنحلّ اللغة داخل آلة قمع تجمع الأساليب البدائية والحديثة معا، وتقوم بطحن لغة الضحيّة وتدميرها.
الداغستاني توقف في مقاله عند الفرق بين سرعة عواء الأوروبي الذي لم يتوقع أن يصير ضحية هذا النوع من التعذيب، وصمود المعتقلين السوريين. روى الكاتب أن المعتقل الأوروبي بدأ يعوي بعد ثلاثة أيام من التعذيب، بينما كان المعتقلون السوريون الذين تعرضوا لتعذيب أشد هولًا، يجدون متسعا لتبادل الطرائف بين جولتي تعذيب. لكنه يستدرك ليروي عن معتقل سوري في سجن المزة صار يعوي بعد قضاء أربعة عشر عاما في المنفردة.
مشكلة النظام السوري مع الشعب تتلخص في حكاية العواء هذه، فآلة الطحن الاستبدادية كانت تسعى إلى طحن اللغة في سياق طحنها لأجساد المعتقلين. هذا ما كشفت عنه الشهادات الخارجة من سجون سوريا، خصوصا سجن تدمر الرهيب، لكن النظام الذي اشترى صمت الناس بالتخويف، عجز عن إجبارهم على العواء.
وعندما انفجر الناس في وجه الطغيان استعادوا لغتهم أولًا، حملوا الكلمات على الأغاني والأهازيج، احتفلوا بأجسادهم التي تواجه الرصاص وبلغتهم التي تستعيد المعنى، وفي خضم هذا الاحتفال سقط النظام بسقوط هيبته، فلجأ إلى القتل، وبدأت أبواب سوريا تتخلع أمام الغزاة. تناوب الاستبداد من جهة والأصوليون من جهة أخرى على قتل الأجساد التي تقاوم وإخراس اللغة التي تتكلم.
أنظمة القتل تحتفل منذ أربع سنوات بالنصر، أي منذ استفحال المرض الأصولي المدعوم بأموال النفط سواء كان هذا النفط عربيًا أو ايرانيًا. براميل وكيميائي وإعدامات وحشية وفرض لغة مأخوذة من مقبرة اللغة، وصولا إلى الطيران الروسي.
الدم السوري الذي غطى وجه العالم كان وحيدا، وسيبقى وحيدا. هذا هو الدرس الذي يُستعاد في كل منعطف تاريخي، فالوهم الذي ساد في المراحل الأولى من الثورة بأن الدعم الغربي سيأتي، تجاهل أو تناسى أن إسرائيل ليست سوى حصن غربي متقدّم لا يتمنى سوى تصحير بلاد العرب، كي يتمكن من إنجاز مشروعه الكولونيالي الاستيطاني.
إنهم يحتفلون بالنصر، ويتوقعون من الضحيّة العُواء.
قد تصمت الضحية السورية لكنها لن (…)، فالشعب السوري الذي دفع ثمن حريته المشتهاة بلا حساب، وصار شعبا من اللاجئين، هو اليوم مرجعية أخلاقية تعيد لكلمة الكرامة الإنسانية معناها.
الجلّاد فقد لغته قبل ضحيّته، ماذا بقي من لغة النظام القومية، وماذا سيبقى من لغة الأصوليين التي تشوّه الماضي ولا تستعيده.
هذا الصخب الانتصاري الذي يصم الآذان عُواء، لكنه بالتأكيد ليس عُواء الضحيّة، إنه عواء الجلاد.

(*) كاتب لبناني




المصدر