هل وأد المجتمع المدني السياسة؟


محمد ديبو

لا يختلف اثنان في سورية اليوم على أنّ الحياة السياسية السورية في أسوأ مستوياتها ومراحلها، هذا إن كان يمكن الحديث عن سياسة أو حياة سياسية أصلًا، فكل ما لدينا معوّم على الثورة التي لم يبقَ من اسمها الكثير، فما لدينا من “سياسة” هو استمرار لسياسة النظام، بطريقة أو بأخرى، فإذا كانت “سياسة” النظام محمولة على القمع والاستبداد؛ فإن سياسة المعارضة محمولة حتى اللحظة على “الثورة”، دون أن تتمكن من استثمار الأخيرة أو ما أتاحته لها للتجذر في الواقع. واليوم في الوقت الذي تبدو فيه الثورة وكأنها تدخل في تحوّل من تحولاتها الكثيرة، يبدو الحصاد السياسي ضئيلًا، إن لم تقل معدومًا؛ الأمر الذي يطرح سؤالًا: لماذا لم تتمكن النخبة المعارضة (ثقافة وسياسة) من إعادة بناء السياسة في سورية عمومًا، وفي المناطق التي انحسرت عنها قوة السلطة السورية؟

قبل الإجابة عن سؤال كهذا، لا بدّ من الانتباه إلى أنّ غياب السياسة توازى عمليًا مع تقدّم واسع للمجتمع المدني السوري، إذ بات لدينا مؤسسات مجتمع مدني تعمل في أغلب المناطق السورية (النظام والمعارضة)، وتمكنت هذه المنظمات من القيام بعدد كبير من المهمات التي كانت ملقاة على عاتق الدولة السورية؛ ما يجعلنا أمام سؤال آخر أكثر اتساعًا من الأول: لمَاذا نجحنا في إحياء المجتمع المدني، وفشلنا في إحياء المجتمع السياسي؟

تعود المعارضة السورية -بكافة أطيافها وأيدولوجياتها ومكوناتها- إلى الجذر ذاته الذي وُلد منه الاستبداد؛ إذ إن نظرة منا إلى أحزاب المعارضة السورية السائدة اليوم، والتي قارعت الاستبداد في سنوات قوته، أي قبل الثورة، ستبين لنا أنّ لها الجذر المعرفي/ الفكري نفسه، أي ولدتا معًا من الأيديولوجية نفسها، فأغلب أحزاب المعارضة السورية هي انشقاق أو أصل لأحزاب كانت موجودة في الجبهة الوطنية الحاكمة، والتي كانت مجرّد ستار للاستبداد، ما يعني أن مقارعة النظام تتم على الأساس الفكري نفسه، وليس ضده، وهو ما قد يُفسّر عطب المعارضة السورية التي قارعت النظام على الأرضية ذاتها خلال السلطة، ولم تتمكن من الارتقاء إلى مستوى اللحظة الثورية التي عاشتها سورية؛ الأمر الذي ولّد نفورًا لدى الشباب والناشطين من السياسة، بحيث بات أغلب هؤلاء ينظرون إلى السياسة بوصفها الشيطان، وباعتبار الفعل المدني المطهر أو المنجاة من التلوث في وحول السياسة، خاصة أن التجربة العيانية ليوميات السياسة السورية، كانت بمثابة المحرقة لكل من دخل فيها.

لا شك أيضًا، أن عنف النظام لعب دورًا بارزًا في منع تشكل السياسة السورية، فمستوى العنف والإجرام كان يهدف -في ما يهدف- إلى منع تشكل تلك السياسة التي حاربها النظام مذ تكوّن، لإدراكه التام أن بدء سيرورة السياسة في سورية يعني العدّ العكسي لتفكك منظومته الاستبدادية، ليتواءم بذلك عنف النظام مع فقر المعارضة وتخلي الشباب عن ساحة السياسة للكهول؛ ليوصلنا إلى حال الإفقار السياسي الذي نعيشه اليوم.

إلى جانب ما سبق، هناك أمر يتعلق بالمجتمع الدولي ومصالحه، فالدول التي تتغذى اليوم على الحرب السورية، هي الأخرى يهمها أن لا تتشكل السياسة السورية إلا باعتبارها امتدادًا لمصالحها، لأن سياسة سورية ذات أجندة وطنية، هي بالضرورة ضد أجندة هؤلاء الذين عملوا أيضًا للاستثمار في الدم السوري دفاعًا عن مصالحهم. وهنا كان لهؤلاء أدواتهم أيضًا في تخريب ساحة السياسة السورية، إذ عملوا وفق مستويين: الأول هو تجيير المعارضة التقليدية وتكوينها وفق مصالح هذه الدول، والعمل على إفسادها بالمال وغيره، الأمر الذي أظهرها كمعارضة مرتهنة؛ ما نفّر الشباب والمجتمع السوري من قسم كبير منها. والثاني هو تقديم الدعم الهائل للمجتمع المدني السوري والناشطين بعيدًا عن تقديم الدعم لساحة السياسة وتشكيل الأحزاب السياسية. وكلنا نعلم أنه لا يمكن لحرب أو ثورة أن تصل إلى أهدافها دون وجود تمثيل سياسي حقيقي، يأخذ بهذه الأهداف ويعبّئ حولها الجماهير، ليجعلها واقعًا ممؤسسًا في قوانين ومؤسسات، وممارسة يومية أيضًا، ومن هنا؛ ساهم هؤلاء أيضًا في تفريغ الساحة السياسية من الشباب الذي اتجه إلى المدني بعيدًا عن السياسي.

يراهن بعض السوريين على أنه، في ظل الوضع السوري وتعقيداته، كان من المستحيل ولادة سياسة سورية صحيحة، لأن الحرب أساسًا (بطبعها) نابذة للحرب. بالرغم من أنّ قولًا كهذا يجانب الصواب، إلا أنّه يبرّر الكسل والاتكال ويتستر أحيانًا على الأخطاء التي جرت، وكان لها دور في وأد السياسة التي لن تعود دون إعمال مبضع النقد، لفهم أسباب هذا الغياب، ناهيك عن العمل على كيفية تفعيل السياسة واستعادتها، وهنا قد يشكل التراكم الذي جرى في المجتمع المدني السوري مدخلًا لاستعادة الحقل السياسي، عبر توّجه الخبرات التي تراكمت هنا نحو الحقل السياسي، أو عمل المجتمع المدني ذاته على إعادة إحياء السياسة والتشجيع على ولادتها والاهتمام بها، فهل يحصل؟




المصدر