رحيل الأسد قضية هامشية أم رئيسية؟



اتسمت النسخة السادسة من مفاوضات أستانا السورية التي انتهت قبل أيام، بضم مدينة إدلب إلى مناطق “خفض التصعيد” المتفق عليها بين الدول “الضامنة” (روسيا وإيران وتركيا)، والتي بدورها ستقوم بنشر مراقبين؛ للإشراف على خفض التصعيد في إدلب، بتهميش القضية الأساس لمبدأ المفاوضات القاضية بإقرار حلّ سلمي وسياسي للصراع في سورية، يفترض أن يقوم في أحد بنوده على رحيل الأسد ونظامه من الحياة السياسية في سورية، وهو الأمر الذي من أجله دفع الشعب السوري تضحيته الكبرى، خلال ستة أعوام. ويعرف الموقعون في أستانا جيدًا أن نقطة الضعف الرئيسة، في كل عملية المفاوضات، تكمن في “الغموض” المتصل ظاهريًا بمستقبل الأسد ونظامه.

غير أن كل ما يحيط بالمفاوضات ومآلاتها يبعث على الخوف، لوضوح سياسات الدول الداعمة للنظام والمعارضة في آن واحد، والتي تفضي كلها إلى تهميش هذا البند، والاهتمام بوأد الثورة، عبر فرض أجندة حددتها الأطراف الراعية لتصب في خدمة النظام، وكل مراحل المفاوضات ساعدت -بشكل أو بآخر- النظامَ وحلفاءه على إكمال جرائمهم، ليبقى ديكور الاجتماعات، وتحديد مواعيد أخرى، عاملًا مساعدًا لتأمين نوع من الحماية للنظام، ولا شك أن من يصوغ بنود المفاوضات وقراراتها قدّر سلفًا أن إبقاء الجُمل الفضفاضة لعملية الانتقال السياسي للسلطة وكلماتها المطاطية سيخلق في المحصلة نوعًا من الالتباس الذي يسمح لأطراف المفاوضات بالاختباء خلفها.

يمكن إيجاد الملاحظة نفسها، عند التأمل في آلية تطبيق “خفض التصعيد”، في المناطق المتفق عليها، قبل ضم إدلب إليها، أي في مزيد من خرق الاتفاقات، وارتفاع الوتيرة الجرمية للنظام ووكلائه على الأرض. إن إحداث مناطق “خفض التصعيد” وإدارة المفاوضات، بشكلها ومضمونها المستبعِد رحيل الأسد، ما هي إلا ذرّ للرماد في العيون، والهدف من كل هذا التمويه هو إتاحة المجال للنظام، بمساعدة حلفائه، لبسط السيطرة العسكرية، وهو ما تحقق نسبيًا خلال مسيرة المفاوضات، لتُسوّق على أنها أفضل ما يمكن التوصل إليه، في ظل “حسم النظام” وتراجع الثورة.

قبل الخوض في نظرية الحسم والتراجع، يجب أن نذكر أولًا أن عملية دعم المعارضة ومفاوضتها للنظام، مع الانتقادات التي سجلت على أداء المعارضة -وهي كثيرة بطبيعة الحال- لم تلق سوى خذلان كبير وفاضح من المجتمع الدولي، وصل إلى حدٍ مخزٍ في تراجع المواقف حول رأس النظام، ولم تأخذ الجرائم الكثيرة والمتشعبة للأسد طريقًا نحو الإدانة الحقيقية التي هي بطبيعة الحال تُسقط عنه مشروعية قيادته للمفاوضات، كمجرم حرب يجب محاسبته لا مفاوضته.

هنا نرى مفارقة مدهشة، بعد كل جولة من أستانا أو قبلها، حين يُدلي المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، بتصريحاته المتحمسة للأسد والمجحفة بحق المعارضة، باعتبارها “مهزومة”، نلاحظ أن جوهر أفكار رعاية المفاوضات لا يمت بصلة إلى طموحات السوريين وتضحياتهم، وقد أصبحت جولات جنيف أو أستانا حالة تناقضية حادة، قطبها الأول النظام وحلفاؤه، وقطبها الثاني المعارضة وسياساتها المرتهنة لأجندة إقليمية ودولية، وما تحمله من مخاطر على تضحيات السوريين.

هنا أيضًا، لا نُنكر حجمَ الضغوط الكبيرة التي تقع على كاهل المعارضة السورية، إلا أن ذلك لا يُبرر نزعة الاسترخاء عند البعض، ومن المؤسف الانصرافُ عن جدية مناقشة البند الأهم المتمثل في رحيل النظام بكل جولات المفاوضات، والذي لن يُفضي إلى إقامة سلام حقيقي في سورية، يقوم على المبادئ التي ينشدها عموم السوريين، فطالما بقيت تطلعات السوريين هامشية، فسيبقى بؤس المفاوضات والسيطرة والحسم والهزيمة، تصنيفاتٍ محشورة في خانات ضيقة، والكلمة الأخيرة والأولى ستبقى صادحة في الحرية من المستبد، بإسقاط نظامه فعلًا، وكل مفاوضات تخفف من وطأة المستقبل تظل طوباوية بصورة بائسة.




المصدر
نزار السهلي