صلاة في البحر.. لقد فقدت سورية أثمن تملكه



“على هذا الشاطئ البارد الذي يضيئه القمر، وسط بكاء الأطفال والنساء القلقات اللواتي يتكلمن لغات لا نعرفها، أفغان وصوماليون وعراقيون وإريتريون وسوريون.. ننتظر كلنا شروقَ الشمس بفارغ الصبر، وبرهبة، يبحث كلّ منا عن مأوى له. “أنْظُر إلى ملامحك، ابني الحبيب، في توهج ثلاثة أرباع القمر برموشك المخطوطة والغارقة في نوم بريء. قلت لك: أمسك يدي. لن يحدث أي شيء.. كلّ ما يمكنني أن أفكر به، هذه الليلة، هو مدى عمق البحر ووسعه ولامبالاته، وكيف أنني عاجز عن حمايتك منه. كل ما يمكنني القيام به هو الصلاة.. أصلّي لربي، وأدعوه أن يوجه القارب إلى المسار الصحيح، عندما تنزلق الشواطئ من مرمى نظرنا، ونصبح نقطةً في المياه المرتفعة؛ نتقلب ونميل ونوشك أن نغرق بسهولة”.

يشكّل النص الآنف رسالة أبٍ، يحتضن طفله على الشاطئ، عشية عبورهم البحر إلى أوروبا. نشره قبل أيام سفير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين للنوايا الحسنة، خالد حسيني، بمناسبة السنوية الثانية، لوفاة الطفل السوري “أيلان” الذي كاد العالم ينسى موته المروع، وينسى معه محنة الملايين الذين أجبرهم جحيمُ الأسد على الفرار، والمخاطرة بعبور البحار مع أسرهم، بحثًا عن أي ملاذ آمن.

غرق مركب “أيلان” البالغ من العمر ثلاثة أعوام، في 2 أيلول/ سبتمبر 2015، وحرّك الطفل الذي قذفت الأمواج جسده الطري إلى رمال شاطئ منتجع (بودروم) التركي، ليستقر منكبًا على وجهه، غضبَ العالم. غير أن فورة هذه الصدمة سرعان ما هدأت، وعادت المنافذ البرية والبحرية إلى سابق عهدها، وأقفلت أوروبا أبوابها.

يتذكر خالد حسيني، في صلاته من أجل طفله (حمصَ) المدينة التي ترعرع فيها (كان هناك مسجد لنا نحن المسلمين، وكنيسة لجيراننا المسيحيين، وسوق كبير لنا جميعًا نساوم فيه على القلائد الذهبية والمنتجات الطازجة وفساتين الزفاف. أتمنى لو أنك تذكر الحارات المزدحمة ورائحة الكبة المقلية والنزهات المسائية التي كنت أقوم بها مع والدتك، في أرجاء ساحة برج الساعة. ولكن، تبدو تلك الحياة وذلك الوقت الآن زائفين، حتى بالنسبة إلي، مثل بعض الشائعات التي تلاشت منذ فترة طويلة. ففي البداية جاءت الاحتجاجات، ثم الحصار، ومن ثم القنابل المتناثرة من الجو؛ ليأتي، من بعد ذلك، الجوع ودفن الجثامين).

قبل أيام، خضعت آلام “الحسيني” النثرية في قضية “أيلان” لإجراءات فنية؛ إذ حوّل فريق صحيفة (الغارديان) البريطانية (أنريك بريجمان، وأندرو ماسون، وأنيتا جونز، وليزا غولدن، وبيجرين أندروز)، بالتعاون مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين UNHCR، مضمونَ رسالته القصيرة (صلاة في البحر) إلى أول فيلم رسوم متحركة، نفّذ بتقنية الواقع الافتراضي، بمساعدة الفنانة الشهيرة في هذا المجال (ليز إدواردز)، ونشرته على موقعها؛ للفت أنظار العالم إلى مأساة شعب ما يزال يدفع ثمنًا باهظًا، نتيجة استمرار حرب غادرة، يشنها ديكتاتور من أجل الحفاظ على سلطته، أدت إلى مصرع مئات آلاف المدنيين، ودفعت الملايين من مختلف المناطق، إلى مغادرة منازلهم، والهرب عبر الحدود إلى بلدان الجوار الإقليمي، وبخاصة تركيا، حيث تربطها مع أوروبا منافذ برية وبحرية عديدة.

كتب محمد بسمار، وهو لاجئ سوري صارع الموت ونجا بأعجوبة، حين أنقذه يخت ممثلة يونانية بين جزيرة كوس وجزر بسيريموس قرب الشواطئ التركية: “أنا آسف جدًا لدخولي اليونان بصورة غير شرعية، لكن لم يكن لدي أي وسيلة أخرى للفرار من الحرب التي دمّرت بلدي”.

بعد يومين من وفاة (أيلان)؛ وافقت ألمانيا على قبول آلاف اللاجئين، وشجعت هذه الخطوة قادةَ أوروبا الوسطى والشرقية، على إنشاء ممر إنساني من شمال اليونان إلى جنوب بافاريا. ومع ازدياد شعبية اليمين المتطرف في جميع أنحاء القارة، وانتشار تصور حول وجود علاقة مفترضة بين الهجرة والإرهاب؛ تخلى الغرب عن نهجه، وأغلق الممر الإنساني الوحيد بشكل نهائي.

في العامين الماضيين، لقي ما لا يقل عن 8500 شخص حتفه، وقد يكون بعضهم اختفى، في أثناء محاولتهم عبور البحر إلى أوروبا. ووفقًا لمنظمة (يونيسف)، فإن “واحدًا، من بين كل خمسة ضحايا، عمره سنتان”. وتشير معلومات أخرى إلى أن واحدًا من بين خمسة مهاجرين، هو من الأطفال، وأن 30 بالمئة من أصل 3500 حالة وفاة في المتوسط، كانت لأطفال ينحدر معظمهم من سورية وأفغانستان والعراق.

تشير (يونيسف): في الفترة، بين كانون ثاني/ يناير، وأيلول/ سبتمبر 2015- ذروة فترة اللجوء-  تمّ تسجيل أكثر من 200 ألف طلب لأطفال يسعون للجوء إلى دول الاتحاد الأوروبي. وتعود ربع هذه الطلبات إلى أطفال سوريين، فيما 18 بالمئة لأطفال أفغان. فيما ارتفع عدد السوريين الذين غرقوا في مياه البحر الأبيض المتوسط، منذ عام 2011 وحتى الآن، إلى أكثر من 9500 سوري.

تمكنت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين من تحديد عدة عوامل، تقف وراء تدفق اللاجئين السوريين عبر أمواج البحار، جاء في مقدمتها الشعورُ باليأس؛ وذلك لعدم توفر أي مؤشر على وجود حل في الأفق لأزمة بلادهم؛ ما فاقم مشاعر عدم اليقين بشأن مستقبلهم بسبب ظروفهم البائسة.

إلى جانب اليأس، بوصفه عاملًا مهمًا، كشفت رسالة وجدت في جيب أحد السوريين، انتشلت جثته بعد غرق مركبهم، كان قد كتبها لأمه، أنّ الحرب التي حلت في بلاده، والضغوط السياسية، والحلم بالعيش خارج بلد دمرته البراميل المتفجرة، والسياسات الطائفية، هي ما دفعه للرحيل: “كان لا بد لي أن أسافر كغيري من البشر، مع العلم أن أحلامي لم تكن كبيرة كالآخرين، كما تعلمين، يا أمي، كل أحلامي كانت بحجم علبة دواء للكولون لك، وثمن علاج لأسنانك. بالمناسبة لون أسناني الآن أخضر بسبب الطحالب العالقة فيه، ومع ذلك هي أجمل من أسنان الديكتاتور [في إشارة إلى بشار الأسد] أنا آسف يا حبيبتي، لأنني بنيت لك بيتًا من الوهم، كوخًا خشبيًا جميلًا، كما كنا نشاهده في الأفلام، كوخًا فقيرًا بعيدًا عن البراميل المتفجرة، وبعيدًا عن الطائفية والانتماءات العرقية.. شكرًا لكَ، أيّها البحر، لأنك استقبلتنا من دون فيزا ولا جواز سفر، شكرًا للأسماك التي ستتقاسم لحمي، ولن تسألني عن ديني، ولا عن انتمائي السياسي”.

اليوم، لا يمكننا وقف استمرار هذه المعاناة الإنسانية المعقدة؛ ما لم تعالج أسبابها الرئيسة. ومن اللافت أن الوقوف إلى جانب العدالة في هذا الملف، وضرورة تهيئة السبل لعودة الملايين إلى بلدهم، قد أضحى فاترًا، وكأن الذين يسعون إلى فرض الأمر الواقع، على خلفية أن فرض العدالة الدولية من شأنه أن يعرض مباحثات السلام الجارية في أستانا وجنيف، لخطر الفشل، ويسد جميع منافذ الخروج الآمن أمام الأسد، إنما يتجاهلون، على نحو سافر، كل الدلائل والقرائن التي تؤكد ضلوعه في جرائم ضد الإنسانية.

فقدت سورية أغلى ما تملكه، من ثرواتها، وهو ثروتها البشرية؛ ولم يعد لديها ما تخسره أهم من ذلك. لكن أي تسوية مقبلة، تراهن على خيار بقاء الأسد، ستكون سدًا أمام عودة اللاجئين، وأشد خطرًا على السلم والأمن الدوليين من خيار محاكمته وغيره من كبار المسؤولين، على الجرائم التي ارتكبوها طوال السنوات السبع الماضية.




المصدر
علاء كيلاني