الأمم المتحدة.. 72 سنة شكاوى عربية



شكّل منبر المنظمة الدولية، منذ نشأتها، مناسبةً عربية لتبرير العجز وتقديم الشكاوى، وعرضًا مملًا من الخطابات المتشابهة في القاموس العربي الذي أدخل بعض التعديل في صياغة عبارة “مكافحة الإرهاب”، كعصا سحرية منجية من كل برامج التنمية البشرية والبناء المجتمعي، ومكافحة الفساد والاستبداد إلى كل الأزمات.

كوارثنا التي نفّرت العقول العربية ودفعتها إلى الهجرة، وأنظمة فاشية تُدمي مجتمعاتها، ليست هي الوحيدة في منظر متأخر، يرمي كل مشكلاته عبر فضائيات فبركة الكذب، إنها إشكالات أكبر من ذلك بكثير، فلطالما ظلّ العقل العربي حبيس التنظير والشكاوى وفتل العضلات في العلاقات البينية؛ ولهذا ستستمر عملية الانحدار والشرخ العميق.

الحفاظ -عربيًا- على تقليد حضور جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة، لم يُطوّر فيه الحضور إلا ممارسات تزيد من محن المجتمعات والشعوب، حين يئن بعضها خمسة عقود تحت الاستبداد، وينتقل من الاستقلال إلى الدمار دفعة واحدة، يكون ممثل هذه الدولة يعتلي منبر المنظمة الدولية ليشكو إما شقيقه العربي، أو يُحرّض على أبناء جلدته، أو يسعى للتودد إلى “عدوه” الذي اشتكى منه عقودًا طويلة، فبعد أن فرغت جعبة الشعارات والخطابات بمسؤولية الاحتلال والإمبريالية الأميركية والمؤامرات، جاء دور تنشيط الشكاوى، بما يناسب المرحلة.

قبل أن يكون “الإرهاب” مصطلحًا، ومفهومًا متداولًا بشكل ظاهري من قبل بعض النظام الرسمي العربي، كان اللوم يقع في خطابه على تقصير المنظمة الدولية، ومناشدتها للضغط على الاحتلال “للوفاء” بالالتزام نحو القوانين الدولية، في حين تغيب كل الالتزامات الأخلاقية والإنسانية والدستورية والقانونية من بعض تلك الدول، بفعل التسلط والاستبداد، وللحفاظ عليه كمكتسب أبدي، يساهم في الإبقاء على دورة التخلف والفقر والحرمان وغياب الحريات.

منذ تأسيسها، اختار العرب الرسميين المنظمةَ الدولية منبرًا، لاستئناس الإذلال من الدول الكبرى، وذريعة مستمرة لاستهلاك ما تلقيه أمامهم، فكل المال العربي لم يستطع ردم الفجوات العميقة في مجتمعاته، وبعضها بات ينام على ركام دمار بيوته، بفعل فاشية حكامه أو محتله. والأنكى من ذلك أنه يستخدم منبر المنظمة الدولية، ليتحدث عن فضائل الإنسانية والتعاون الدولي ومشكلات اللاجئين الذين فروا من بلادهم، بفعل سياسات أنظمتهم.

لم تكن حال المنظمة الدولية أفضل من حال تلك الأنظمة الزاحفة إليها شكّائة بكّائة، ولم تجد من قراراتها حبلًا لتمده إلى تلك الأنظمة أفضل من تلك الحبال المرتبطة بإنجاز ما أُنجز، وإذا كان البعض متيقنًا أن المنظمة الدولية خاضعة للاحتواء والابتزاز والهيمنة، فما بالنا بالصوت العربي الخافت حينًا والأخرس أحيانًا كثيرة! اختلال توازن المنظومة الدولية لم يكن وليد اليوم، إن عمره من عمر ولادتها، ولا كل الأزمات العربية مرتبطة أصلًا بهذا الاختلال، مع أن خفوت وتراجع الفعل العربي إلى درجته الصفرية ساهم في تعميق الاختلال، بدليل أن كثيرًا من الدول المنضوية تحت قبتها، تستمد فاعليتها من بنيانها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، وسلم كل ذلك متحطم عربيًا إلا ميكرفون الشكوى.

يتوهم بعض النظم العربية أن وجود مقعده في الأمم المتحدة، ولوحة تحمل اسم دولته، هو من أكبر الإنجازات التي يُسميها “اعترافًا وسيادة”، إلا أن سلوكه ومنهجه إما دفتر شيكات للأميركي، أو محاضر أمنية لمن هبّ ودبّ، أو تحوّل إلى وكيل قوى أجنبية للحفاظ على كرسي الحكم، وفي أحسن الأحوال يجلس على ركام بلده، لارتباط كرسي الحكم بمقعد الاعتراف الأممي الذي بدوره لا يخرج عن “الوظيفة” التي أُفهم شروطها. سيبقى الدور والصوت العربي مخنوقًا في المحافل الدولية، إن لم يكن لهذا الصوت صدى في الميادين المحلية، ولن تستقيم الشكوى من المحتل أو الشقيق أو العدو، دون بناء مجتمعات حرة تمتلك شرعيتها أصلًا، وتجعل حضورها في المنظمة الدولية بروتوكوليًا أو لتساهم في البناء الإنساني والكوني، وهذا ما لم يحصل منذ سبعة عقود شكاوى، فهل ننتظر سبعة أخرى؟




المصدر
جيرون