جدلية العِلمانية والعَلمانية والاستعصاء التاريخي



ما من شكّ أن زمن الحشر داخل زجاجةٍ تستعصي على الكسر قد طال، وما من شك أن الخروج من عنقها اليوم بات ضرورة تاريخية؛ كونه صار يضيق ويضيق أكثر من قبل مانعًا إكسير الحياة عمن حشر نفسه -بإرادته- داخلها، وهو المجتمع العربي الذي آثر منذ القرن العاشر إغلاقَ باب الاجتهاد العقلي-الفلسفي في النص الديني، والتباهي بعداوته للفلسفة التي لم تكن قد انفصلت عنها العلوم بعد، مستسلمًا ليقينية يوم الحشر في ذهنيته الإيمانية، وما تتضمنه من دعوة صارخة للتدين الخاضع للمسلّمات النهائية، واعتزال العلم الذي يتجاوز حدود التسليم والقبول. إن منهج نقد الأفهام الدينية السائدة عجزَ عن إعادة الفلسفة إلى العقل العربي المأزوم في العصر الحديث؛ لأنه اكتفى بنقدها من داخل الدين، ولم يلح على نقد النص الديني من خارجه بالمنهج العقلي، لتحريره من قفلاته أو نهائياته التي تتناقض مع التفكير العلمي المفتوح نحو لانهائياته، فالعلم غير معني بنقض الدين، ولم تكن هذه وظيفته، لكنه معني بردم الهوة تدريجيًا بين العقلي والمتخيل، بين العالم الدنيوي والعالم الدينوي، بين الوعي واللاوعي، وكذلك شأن الفلسفة، فهي لا تسعى للحلول محل الدين بل لتقديم العقل على النقل؛ للإجابة عن أكثر تساؤلات العصر إلحاحًا. إن روح العصر الفلسفية تتجسد أكثر فأكثر في جدلية العِلمانية والعَلْمانية: العِلْمانية التي تقوم على ثنائية العقل-القيمة، والعَلْمانية التي تقوم على ثنائية الفرد-المؤسسة، كأساس أخلاقي لكليهما. فالعِلْمانية المنبثقة من روح العصر تفترض رؤية فلسفية جديدة للتعليم مبنية على ثنائية الإبداع-الأخلاق؛ مما يقتضي تغيير المناهج والأساليب التعليمية من النقل-التلقين إلى العقل-التفكير، وإعطاء أولوية للعلوم الأساسية والتقنية في المرحلة الأولية؛ كونها تحفز التفكير والتحليل والتركيب والتجريد والتجريب على العلوم الأخرى التي يغلب عليها الطابع النظري-التلقيني، ويتسابق إليها الأذكياء طمعًا بدخلها العالي ومكانتها الاجتماعية الكاذبة، مع طبع العملية التعليمية كلها بذائقة فلسفية وجمالية. إن هذه الفلسفة من شأنها تكوين الإنسان-المبدع، بدلًا من الإنسان-المتلقي، وتخرق جدار اليقين نحو فضاءات الشك الرحبة، وتفتح الأقفال الصدئة المُوصِدة للفكر بإحكام. أما العَلْمانية فهي الآلية الوحيدة التي تتيح بيئة مواتية لتطور الفرد-الإنسان، بما توفره من حرية تطلق طاقاته الإبداعية من إسارها، وتؤمنها من خلال المَأسسة القانونية، ولا سيما في سياق العِلْمانية، مأسسة المدارس والجامعات ومراكز الأبحاث وربطها بمؤسسات الاقتصاد الإنتاجية والخدمية، كما أنها تنمي الروابط الإنسانية الحداثوية، عوضًا عن الروابط القَبْلية التي تعوق مسار التطور. إن تحرير العقل الجمعي يبدأ مع عودة الفلسفة إلى الحياة، عبر ديناميات نخبوية تُعْمِل العقل كمصدر للمعرفة، والمنهج العقلي العلمي كأداة معرفية في اجتراح الحلول التي تخرج المجتمع من عنق الزجاجة أو تكسرها، طالما أنّ الجزء العمومي من المجتمع يصر على التمسك بقبضة ذهنية-إيمانية من حديد بالمقدسات، باليقينيات، الدينية وغير الدينية، ويخشى الشك الذي يحرض المعرفة والتفكير العلمي السليم الذي في جوهره لانهائي الصيرورة.

لا تخرج العَلْمانية عن إطار العلم الذي يجب أن يُخضع الدين وأي معتقد أو نظرية أو أيديولوجيا لأحكامه ومناهجه، كسبيل وحيد لتطور المعرفة، على أسس عقلية لا يقينية. بالمقابل؛ فإن العِلْمانية لا تتجرد من الأخلاق التي هي أساسها، ومن خلالها تتوسع رقعة الوعي على حساب انحسار مساحة اللاوعي، وإذا خضعت الأفهام الدينية وغير الدينية مما تشكل يقينيات لأحكام ومنهجية العِلْمانية؛ فإن العَلْمانية تصبح الممر الإجباري لصيرورة تطور المعرفة والوعي الجمعي اللانهائية.

والمقصود بالعَلْمانية -بالمفهوم الفلسفي- العالم الدنيوي الواقعي الطبيعي والاجتماعي الذي يجب إخضاعه للعِلْمانية لمعرفة كنهه، وهذا غير ممكن طالما يسيطر اليقين على النص الديني، أو الأيديولوجي، الماضوي والأفهام الدينية، أو الأيديولوجية، الراهنة على الوعي الجمعي. ولإيجاد بيئة مواتية للعِلْمانية، يصبح من المهم بل الضروري قيام عَلْمانية بالمفهوم السياسي، تلغي أو تحيّد تبعات تأثير اليقينيات الدينية وغيرها من يقينيات أيديولوجية على ديناميات العِلْمانية والمعرفة عمومًا.

إن إقفال العقل الفلسفي، بجناحيه العلمي والسياسي-الاجتماعي باليقينيات، يجر إلى إقفال التاريخ أمام حركة التطور المجتمعي، ويُحدث تنابذًا شديد الوطأة بين مقتضيات العصر من جهة، وأفهام الناس لها من منطلق معرفي ماضوي من جهة أخرى، يعبر عن فظاعته بالعنف الجسدي “دماء” وبالعنف المعنوي “إلغاء”؛ لأن التناقض بين الحاضر والماضي بلغ مستوًى ما عاد يسمح بحوار العقل للعقل، وتحوّل إلى “جدل طرشان”، حيث كل طرف من طرفي الحوار: عَلْماني وديني، أو يساري ويميني، أو ديمقراطي واستبدادي، أو اشتراكي وليبرالي، أو وطني وقومي.. ينظر إلى محاوره من منظور العداء والخوف: “أتغدى به قبل أن يتعشى بي”. في المقابل، فإن الاعتراف بأولوية العقل على النقل، والتفكير على التأويل، وتحرير الدين والدولة أو السياسة من تبعات تأثير بعضهما البعض بفصلهما، سوف يساعد في أي حوار معرفي خلاق بين ذهنيات متناقضة، من دون عنف جسدي أو معنوي، ويؤسس بطبيعة الحال لبيئة نظيفة لتطور العِلْمانية والعَلْمانية، وفي الوقت ذاته ينظف العقول مما اعتراها من صدأ معرفي، وربما لن يدوم الأمر طويلًا حتى تبدأ هذه العقول الصدأة بالتآكل، ما لم تعِ اللحظة التاريخية الراهنة التي ربما لن تتكرر، قبل بلوغها حد التآكل النهائي؛ عندئذ سيواجه العالم العربي إشكالية “يكون أو لا يكون”، في فوضى جدلية الوجود-العدم.

لقد أنتجت المجتمعات التي خطت طريق تطورها بواسطة العَلْمانية التزامًا جوهريًا بالقوانين المدنية والقيم الأخلاقية والحوار الخلاق والإبداع والابتكار والتجديد والجمال، والتزامًا عقلانيًا مفتوحًا بتقدم العلوم والتكنولوجيا من دون إزاحة للدين من حياة الناس، بل إنها رسخت حرية العقيدة، بما فيها الدينية وحق الاختيار وممارسة العبادات.. مما عجز الدين عن إنتاجه منفردًا أو بتزاوجه مع السياسة أو الدولة، أو بدورانه في فلك دعوي مربوطًا بالإيمان للعلم وللقيم الأخلاقية طمعًا في مكافأة “الجنة” أو خوفًا من عقاب “جهنم”.

إن العلم والدين منهجان متوازيان لا يلتقيان إلا في اللانهاية؛ لأن كاريزما العلم الشّك، وكاريزما الدين اليقين. واللانهاية تتحدد -زمكانيًا- بمساحة الوعي الجمعي التي تفترض توحد كل من العقل العلمي والله المتخيل. عندئذٍ تكون العِلْمانية الأساس النهائي المتين للعَلْمانية في المجتمع البشري العاقل الذي تصير فيه الأولوية للقيمة لا للمنفعة أو اللذة، للإنسانية الرحبة لا للمصالح الضيقة، للحرية لا للعبودية، للفكرة المتحررة من القيود لا للمقدس الذي يتربع على عروش الشك وبيده عصا.




المصدر
مهيب صالحة