الإبداع المفقود



يُروى أن الشاعر (أبو نواس) استأذن في مقتبل شبابه خلف الأحمر في نظم الشعر؛ فقال له:‏ لا آذن لك في عمل الشعر إلا أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة.‏‏ فغاب عنه مدة وحضر إليه، فقال له:‏‏ قد حفظتُها؛‏ فقال له خلف الأحمر: أَنشِدْها؛‏‏ فأنشده أكثرها في عدة أيام. ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر، فقال له:‏ لا آذن لك إلا أن تنسى هذه الألف أرجوزة، كأنك لم تحفظها.‏ فقال له:‏‏ هذا أمرٌ يصعب عليَّ، فإني قد أتقنت حفظها؛‏ فقال له:‏‏ لا آذن لك إلا أن تنساها.‏ فذهب أبو نواس إلى بعض الأديرة، وخلا بنفسه، وأقام مدّة حتى نسيها. ثم حضر فقال:‏‏ قد نسيتها حتى كأن لم أكن حفظتها قط؛‏‏ فقال له خلف:‏ الآن انظم الشِّعر! حتى قال أبو نواس بعد ذلك: “ما ظنكم برجل لم يقل الشعر حتى روى دواوين ستين امرأة من العرب؛ منهن الخنساء وليلى الأخيلية، فما ظنكم بالرجال؟” ويروى أيضًا أن خلف الأحمر نفسه -وهو أحد كبار علماء اللغة في عصره وأستاذ الأصمعي- كان يقول “قصيدة يسلك فيها ألفاظ العرب القدماء، وينحلها أعيان الشعراء”، كالقصيدة التي نحلها تأبط شرًّا، أو تلك التي نحلها النابغة، أو القصيدة التي نحلها الشنفرى واشتهرت باسم (لامية العرب)، وسواهم من كبار شعراء العرب الأقدمين، لكنه، مع ذلك، لم يشتهر شاعرًا مثل أبو نواس، بل عالمًا لغويًا.

يقدم هذان المثلان من آداب العرب الطريقةَ التي اعتمدوها من أجل إتقان فنٍّ أدبي، يصعب امتلاك ناصيته كالشعر؛ إذ لا يقتصر ذلك على معرفة ما قاله الأولون أو المحدثون، وإدراك أسرار أساليبهم وطرقهم في قوله فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى تمثله حتى يصير جزءًا لا مرئيًا من عناصر التكوين الثقافي اللاواعي للشاب الزاحف على طريق الشعر. ولئن كانا ينقضان، في الوقت نفسه، كلّ ما يقال عادة وبغير علم عن الموهبة العفوية التي لا تحتاج في تجليها إلى ثقافة أو معرفة؛ إلا أنهما يشيران إلى أن الموهبة ضرورة أساس، وشرط حاسم، لكنها تحتاج -أيًا كان إعجازها- إلى صقل، وإلى أن هذا الصقل، لا يمكن أن يكون إلا نتيجة عمل صارمٍ ودؤوب، يؤدي بصاحبها إلى أن يصير شاعرًا.

لا مثيل على ما نعلم لهذين المثالين في مجال النثر، في أدبنا العربي القديم أو الحديث، وإن عرف الأول ضربًا من المعارضة مارسها بعض الكتاب الأندلسيين، وكان محورها مقامات بديع الزمان الهمذاني. لكن مثل أبو نواس في الشعر يجد ما يمكن أن يقارن به في الآداب الغربية الحديثة والمعاصرة، سواء في مجال الشعر أو في مجال الرواية، وهو ما درج الكتّاب الغربيون على إدراجه، تحت عنوان “المعارضة” أو “المحاكاة” أو “على طريقة فلان”. لم تُستخدم المحاكاة في مجال النقد الساخر فحسب، بل استخدمت -أيضًا- من قبل عدد من كبار الكتاب الذين احتفظ بأسمائهم وبمبدعاتهم تاريخ الأدب الفرنسي الحديث والمعاصر.

قضى مارسيل بروست ردحًا من حياته، وهو يتدرب على مختلف أساليب الكتابة الروائية، قبل أن يباشر كتابة رائعته (البحث عن الزمن المفقود). عُرفت هذه الكتابات تحت العنوان الذي اختاره هو لها: على طريقة فلان.. والتي كتب فيها نصوصًا على طريقة بلزاك، وفلوبير، والأخوين غونكور، ونشرها قبل أن يباشر نشر أول جزء من روايته الكبرى، كما لو كان يريد امتحان مختلف قدراته الأسلوبية على الملأ. ومن قبله، كتب فلوبير هو الآخر على طريقة شاتوبريان. وقبلهما، كتب راسين نفسه على طريقة الشاعر والكاتب نقولا بوالو، وعلى طريقة الشاعر والمسرحي بيير كورني. وربما تكشف كتب الروائي ميلان كونديرا الأربعة في فن الرواية (فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار، لقاء) عن الكيفية التي درس بها تاريخ الرواية الأوروبية، منذ رابليه والروائيين الذين أعجب بهم، وكانوا أساتذة في هذا الفن مثلما كانوا أساتذته أيضًا، كي يجد لنفسه مكانًا فيه. وعلى أن روائيًا مثل نجيب محفوظ أو قاصًا مثل زكريا تامر، لم يفعل ما أقدم عليه كونديرا، حين تحث عن سلالته الروائية، فإن قراءة عميقة لمبدعات كل منهما تشير -بما لا يقبل الشك- إلى الثقافة الأدبية التي سمحت لكل منهما أن يبلغ في إنجازه الفني ما بلغه كل منهما.

هكذا، يمكن لقارئ ما، حين يقرأ اليوم هذه النصوص “التكوينية”، بعد أن قرأ ما أبدعه الأسلاف والمعاصرون من العرب من جهة، أو ما أبدعه كتّاب الغرب المحدثون والمعاصرون من جهة أخرى، أن يتساءل: كيف أنَّ ما ينشره اليوم عدد من الشباب العرب لا يكاد يحصى -ولا مبالغة في ذلك- ممن يزعمون أنفسهم شعراء أو كتاب قصة قصيرة أو روائيين، يكشف -حتى لا نقول يفضح- ما كتبوه جهلًا لا يقتصر على ألف باء فن الكتابة فحسب؛ بل على كل ما يتعلق بالفن الذي يزعمون ممارسته، والأحرى أن نقول “يقترفونه”، كما تقترف الجريمة؟

يعني السؤالُ هنا الأصوات الأدبية العربية الجديدة عمومًا، والسورية منها خصوصًا التي انطلقت في بلدان الثورات العربية وعلى إثرها. فمما لا شكّ فيه أن الثورة السورية التي انفجرت قبل ست سنوات ونصف، قد أطلقت معها -أيضًا- أصوات السوريين من عقالها -أكثر مما فعلته ثورات البلدان العربية الأخرى- وفي كل ميدان من ميادين الكتابة: الصحفية منها والسياسية والفكرية والأدبية. ولا شك أن هذه الثورة، وما انطوت عليه خلال هذه السنوات من مشاهد تاريخية ومشاهد مأسوية غير مسبوقة، كانت حافزًا ومحرّضًا على الكتابة عنها شعرًا ونثرًا. وبقدر ما كان الإقبال على الشعر كثيرًا، بقدر ما كان ما يستحق منه القراءة قليلًا؛ إذ تراءى -كما يبدو للكثير ممن حلموا أن يكونوا ذات يوم شعراء أو كتابًا- أن الموضوع المقدس الذي اعتمدوه لكتابتهم الشعرية أو السردية يمكن أن يغفر كل المثالب، أو أن يغطي على كل العثرات التي يمكن أن تحفل بها نصوصهم التي أرادوها شعرية أو نثرية. وليس امتلاك ناصية التعبير اللغوي أول أو أهمّ الفجوات الفادحة فحسب، بل هناك هذا الجهل الموصوف بالفن الذي يزعم النص انتماءه إليه: شعرًا أو رواية. ففي الشعر على سبيل المثال: غياب، أو عدم فهم، وظيفة الاستعارة والتشبيه، فقر المفردات، ركاكة التعبير، استخدام الثورة السورية -أيًا كان الجانب المستخدم فيها- بدل التعبير عنها؛ أما في الرواية، فثمة جهل كامل بما يعنيه فن الرواية اليوم، سواء على صعيد التقنية وضروراتها أو على صعيد البناء الروائي وطبيعة أدوار أبطال الرواية ودلالاتها ضمنه، كما تتجلى في مختلف منجزات هذا الفن الأوروبية أو في منجزاته العربية؛ كتابة ركيكة حافلة بالأخطاء اللغوية التي -وإن صححت- لن تتمكن من تغطية ركاكة التعبير وضحالته في أكثر الأحيان، أو من تسهيل فهم معاني الرواية أو دلالاتها.

لا يمكن، في سياق محاولات التعبير عن الثورة السورية في تجلياتها المختلفة، استثناء الكثير من “دواوين الشعر” أو “الروايات” التي غامرت دور النشر العربية، خلال السنوات الخمس الماضية، بنشرها -على عاتقها أو على عاتق مؤلفيها- لكتاب جدد أو مخضرمين. فقد خيل للبعض أن موضوع الثورة يمكن له أن يخرس النقد، أي نقد، يتناول أعمالهم، بحجة “قدسية” ما، يودون لو تحاط كتاباتهم به؛ مثلما خيل للبعض الآخر أن ثمة واجبًا يمليه الالتزام بالكتابة عن سورية الثورة، وإنْ أهرقت دماء الفن الحقيقي. كما لو أن ثورة بأصالة وعظمة وندرة الثورة السورية يمكن أن تغتني بمثل هذه المحاولات الضحلة، في الشعر أو في الرواية، غير المسؤولة فنيًا وأخلاقيًا في آن واحد.




المصدر
بدر الدين عرودكي