البحث الميداني في القضية السورية.. أهميته ومشكلاته



تلعب الشهادات الشخصية والتقارير الصحفية والرسائل الخاصة، دورًا أساسيًا في تدوين التاريخ الذي هو بمجموعه لا يتألف من شهادات الأشخاص البارزين ذوي الأدوار القيادية، أو المتنفذين والمتحكمين في سير الأحداث فحسب، وإنما من شهادة أناس عاديين، وضعتهم الظروف وسط أحداث مصيرية، وكانوا على درجة كافية من الوعي والمعرفة؛ فأخذوا يسجلون ما شهدوه أو ما شاركوا فيه.

مما يُؤسَف له أن بعض أصحاب الشهادات الشخصية، في حقل القضية السورية، دفع حياته ثمنًا لتلك الوقائع والشهادات المُؤرخة لحقبة الثورة السورية، ودفع البعض الآخر سنوات طويلة من حياته خلف قضبان الزنازين، في حقبة الاستبداد الطويلة، فكانت الشهادات الشخصية -سواء على صعيد الأحداث أو على صعيد الشخصيات البارزة التي لعبت دورًا فيها- تشكّل المخزون الهائل من سيرة وافية لمواجهة استبداد النظام السوري، ومن ثم وحشيته التي توجت في مرحلة الثورة، على مدار الأعوام الستة الماضية.

مكتبة الثورة السورية تعاني فقرًا واضحًا في تسويق بحوثها الميدانية، على الرغم من كثرتها وتعدد مجالاتها، فإذا تركنا الأشخاص وانتقلنا إلى الأحداث؛ وجدنا آلاف الشهادات الشخصية، وعشرات آلاف الجرائم المحددة الوصف بشكل مفصل، ونعثر هنا على نوع من أساطير الشجاعة التي لم تُدوّن بعد لمؤرخي البحث الميداني في سورية، وتعود أسباب تلك الشجاعة إلى الإدراك العميق لنوعية المخاطر التي واجهها الباحثون، في حقل الاجتماع والسياسة والاقتصاد والجغرافيا، من عملية الإحصاء إلى تسجيل الشهادات حتى خروجها بشكليها الرديء والجيد، حسب ظروف العمل.

بدأت البحوث الميدانية، على نحو جدّي، منذ بداية الثورة السورية، إذ تمّ نقل وتدوين حجم الفاجعة في الحقل السوري الشاسع، والانتباه المبكر إلى الشهادات والتقارير، وعملية توثيق الانتهاكات والقتل العمد، واستهداف منشآت التعليم والصحة والغذاء، فضلًا عن نقل معاناة السكان تحت الحصار والقصف والتدمير. لقد أدرك سوريون عاديون أهمية توثيق لحظات تراكمت بأعوام قاسية، عَرفوا من خلالها أي عدوٍ يواجه الشعب السوري، وقدّموا للعالم الصورة التي أشاح المجتمع الدولي النظرَ إليها مليًا.

الثغرات ونقاط الضعف تبدو واضحة لمن يدرس ويتتبع بعناية الجهودَ المبذولة في مضمار البحث الميداني، ليس في صعوبة الآليات المتبعة أو بشكلها المنظم وشموليته لقضايا كثيرة تهم المجتمع السوري على كافة الأصعدة، بل في نقاط عديدة أبرزها الأوضاع الصعبة التي يعمل وفقها الباحثون على الأرض، وتتلقفها مراكز البحث والدراسة للاستفادة منها وتوجيهها، بما يخدم القضايا التي يشار إليها وراء البحوث والمسوح الميدانية.

فعلى الرغم من التقدم المطرد الذي حققته تلك البحوث، ونشوء جيل جديد من السوريين يصمم على تقديم دراسات علمية وجادة، يبقى التعاطي مع هذه البحوث حذرًا ومترددًا، من قبل المؤسسات الإقليمية والدولية لدواعي عدة، أهمها تجاهل الإشارة إلى حجم الفاجعة التي حلت بالمجتمع السوري، وتسليط الضوء على ظاهرة “الإرهاب” أو الحركات الإسلامية، بمعزل عن دور النظام الأساسي في تنامي الإرهاب الذي ضحيته الأولى أساسًا مُجمل المجتمع السوري.

وحدها البيانات والأرقام والشهادات التي خلصت إليها البحوث الميدانية في سورية تشكل حالة من الرعب والذهول، واقتصر نشرها والاهتمام بها على بعض المنصات الإعلامية الدولية، وتم إسقاط الإشارة إليها عربيًا أو في المحافل الدولية المؤثرة، ولم تشكل قواعد فاعلة للعمل على إدانة وتجريم النظام.

إنصافًا للباحثين الميدانيين في سورية، يجب الإشارة إلى اختلاف ظروفهم عن ظروف الباحثين في مجتمعات أخرى، فصعوبة التحرك والتحري والتسجيل والتصوير والتنقل والتمويل، تترك أثرها السلبي في ردم كثير من الحقائق التي بقيت طي الكتمان، كل ذلك لم يُثبط عزم الباحث السوري، وكل ما أُخرج إلى العَلن هو عمل بطولي بامتياز، في ظروفه غير الملائمة وغير الطبيعية تمامًا.

أخيرًا، يبقى البحث الميداني في المجتمع السوري وقضيته الشاهدَ الواعي للتاريخ، ويستحق كل تقدير، والبذرةُ التي غرسها السوريون باحثون استقصائيون وناشطون ومواطنون عاديون، لتوثيق فواجعهم وصمودهم وحبّهم للحياة، لا تقلّ أهميّة عن مواجهتهم لنظام استبدادي قمعي فاشي. وسيأتي اليوم الذي ينتصر فيه الشعب السوري على جلاديه.




المصدر
نزار السهلي