إعادة الإعمار.. معالجة الجانب المادي لا تكفي



عندما يتعلق الأمر بسورية؛ يُطرح على الفور هذا السؤال: ما هو حجم خسائر الحرب وأضرارها؟ وأين تتمركز الأضرار، ما المنشآت والخدمات التي ما زالت تعمل وتلك التي توقفت عن العمل؟

بالنسبة إلى الأسد، فمن المرجح، أنه لا يملك اليوم أي إجابة مفيدة، فبعد صراع امتد نحو سبع سنوات؛ فقدت الدولة مقوماتها، وتقطعت أوصالها التنفيذية “جغرافيًا”. وعوضًا من أن تقوم الحكومات المتعاقبة بإجراء مسوحات دقيقة، لمعرفة إجمالي الخسائر على الصعيدين: البشري والمادي، كان عملها التقليدي أقرب إلى مشهد حكومات تصريف الأعمال.

علاوة على ذلك، اختصت حكومتا “الحلقي وخميس”، بدور خارج نطاق عملهما التنفيذي، حين لجأتا إلى تسويق رؤية مخالفة للواقع، عبر “بروباغندا” إعلامية، تجاهلتا فيها الهجمات التي تشنها الطائرات والقوات متعددة الجنسيات، وأزاحتا النظر عن نتائجها المروعة؛ بهدف أن توفر العيون المغمضة ذرائع مقنعة، تبرر حجم الضرر، وقسوة الجرائم التي يرتكبها الأسد بحق شعبه.

على غرار الدول البوليسية التي تعتمد في مسوحاتها المختلفة على عناصر أجهزة المخابرات وحسب؛ لم تتوفر لنظام الأسد كوادر مهنية مؤهلة قادرة على مسح الأضرار والخسائر الجسيمة التي منيت بها مختلف المناطق. وبدلًا من أن يستفيد من المؤسسات والمنظمات الدولية المستقلة، منعها من تقديم أي مساعدة بهذا الخصوص؛ ما سمح له أن يحتكر المشهد الرقمي بمفاعيله، ويقدم رواية أحادية، مدعومة بمعلومات وأرقام مضللة، تخدم هدفه غير المعلن، وهو التقليل ما أمكن من فداحة نتائج الحرب. ثم تطويره إلى رؤية محسنة، تُظهر سورية وكأنها في حالة انتعاش متعددة الجوانب، بدءًا من نسب النمو، ومرورًا بإجمالي الناتج المحلي/ والقومي، وانتهاء بحجم مالية الدولة ورصيدها من العملات الأجنبية.

يقول الخبير الاقتصادي أحمد المسالمة: ما كان لأحد أن يتصور هذا التوحش الذي استخدمه النظام، لتدمير أوجه الحياة في المناطق الثائرة ضد حكمه؛ فقد عدّ حربَه بمثابة “فضيلة”، لا غنى عنها، تندرج -كما يدعي- في سياق مواجهة الإرهاب نيابة عن العالم. أضاف في تصريح لـ (جيرون): من المحتمل أنه حقق نجاحات مرحلية في هذا المضمار، لكنه حوّل سورية إلى كتلة من الخراب، فالاقتصاد السوري لم ينهَر فحسب، بل تم تدمير بنيته، حتى أصبح غير قادر على إطعام السكان في المناطق التي تخضع لسيطرته. يتابع: في الآونة الأخيرة، روّج أقطاب حكومة الأسد نظريةَ تعافي النشاط الاقتصادي، وهناك شكوك كبيرة تتعلق بها، ففي كثير من الأحيان، تكون الأرقام وهمية بلا رصيد، وفي أحيان أخرى، لا تنسجم البتة مع أرقام الجهات والهيئات الدولية المستقلة. وفي ظل استمرار تصاعد أعمدة دخان المعارك، وغياب البيانات الحقيقية عمومًا، يكون قياس حجم الخسائر والأضرار معضلة؛ إذ لا يمكننا في ظرف كهذا التوصل إلى أرقام مستقلة قريبة من الواقع، إلا على نحو تقديري.

تبدو طريقة الاستشعار عن بُعد واحدةً من الأساليب المستخدمة حاليًا لردم الفجوة الرقمية المتعلقة بالأضرار والخسائر في سورية. فقد استعانت هيئات ومؤسسات دولية، بتقارير إخبارية مصورة ميدانيًا، وبصور التقطتها الأقمار الصناعية، وتقنية البيانات عن بعد، تلك الخاصة بالكوارث، والتي خضعت لاختبارات ناجحة، طوال عدة عقود، لتقييم تداعيات الحرب، وتأثيراتها المختلفة على السكان والاقتصاد؛ وقدمت صورة أكثر واقعية عن آثار الصراع، ساعدت تقديراتها المفترضة المجتمعَ الدولي، في احتساب كلف الإصلاح، وترتيب أولويات ما يُتخذ من إجراءات مستقبلية، تتعلق بإعادة إعمار ما دمرته الآلة العسكرية.

خلال السنوات الثلاث الأخيرة، توصلت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، ومنظمات (فاو، يونيسف، إسكوا)، وبرنامج الأغذية العالمي، والبنك الدولي، إلى معلومات نوعية حول الخسائر المادية والإنسانية. غير أن تقارير الأخير، حظيت بأهمية خاصة، نظرًا إلى تركيزه على مجالات رئيسية (الأضرار في الممتلكات والبنية التحتية، الخسائر في الأرواح وحركة الأفراد، النتائج الاقتصادية، نتائج التنمية البشرية). واستخدامه النموذج التحليلي، لمجموعة واسعة من الآثار الفردية، بدءًا من الارتفاع في معدلات الفقر، وصولًا إلى التغيرات في قطاع الزراعة. مع تقييم شامل للأضرار؛ الأمر الذي سمح له أن يقارن بين الأدوار المختلفة، لكل من مستوى الخسائر البشرية والدمار المادي، وتدهور النظام الاقتصادي. وأن يحدد الأثر الكلي للصراع، باعتماده نماذج اقتصادية، تناولت الآثار التي يتعذر ملاحظتها، أو التي لا تتوفر بيانات بشأنها، مثل تأثير الهجرة على النتائج الاقتصادية، أو تأثير الأضرار بعد انتهاء الصراع.

ساعدت تقديرات البنك الدولي، للخسائر التراكمية، وتحليله أثرها الاقتصادي والاجتماعي، في تشكيل قاعدة معرفية، يمكن الاستفادة منها في تحديد حجم احتياجات إعادة الإعمار، التي لا تمثل في الواقع سوى جزء من تحدٍ أكبر؛ إذ إنها وفرت خريطة أولية، لحجم الخسائر وحجم الأضرار التي أصابت قطاعات الإسكان، والصحة، والتعليم، والمياه، والصرف الصحي، والنقل، والطاقة. بالتوازي مع أضرار الجانب الإنساني من الكارثة، بما فيها الضرر الذي أصاب رأسمال سورية البشري، الذي يفوق كل الخسائر الأخرى بتداعياته على المدى البعيد.

يتجنب الأسد الحديث عن هذا الجانب على الدوام، ويمتنع في معظم تصريحاته، عن الإدلاء بأي تفاصيل تتعلق بأضرار حربه على الصعيد الإنساني. لكنه يدرك تمامًا أن طائراته الحربية قتلت أكثر من نصف مليون مواطن، ينتمون إلى عشرات آلاف الأسر، وجرحت وتسببت بإعاقة أكثر من مليون آخرين، وشردت قسرًا أكثر من عشرة ملايين مواطن، داخل البلاد وخارجها، إضافة إلى حجز حرية مئات آلاف المدنيين داخل المعتقلات.

إن تجاهل هذه الكارثة الإنسانية المرعبة، أو النظر إليها من منظار رقمي بحت، على حد سواء، لا بد أن يقلل من حجم التفاؤل الذي يبديه المجتمع الدولي، إزاء نجاح عملية إعادة الإعمار؛ ذلك أن إعادة تصور المشهد الحضري لمرحلة ما بعد الحرب، يرتبط -كما هو معروف- بديناميكية سياسية جديدة، تتطلب وجود عدالة انتقالية، وتسويات ومصالحات مجتمعية، تسبق عملية البناء المادية، ومعافاة الاقتصاد. وبخلاف ذلك، ستزيد سلطة الأسد من حدة الانقسام المجتمعي، وتعميق الفجوة الطائفية بشكل أكبر مما هي عليه الآن، وهي فجوة خطيرة تحمل بذور استدامة صراع قد يدفع البلاد إلى هاوية يفوق حجم ضررها، نتائج ما حصدته الحرب، على صعيد التعايش والتماسك الاجتماعي، بأشكاله الإثنية والطائفية والمذهبية.


علاء كيلاني


المصدر
جيرون