بعض من سوسيولوجيا السلوك الديمقراطي
24 ديسمبر، 2017
ازداد عدد من يتحدث عن الديمقراطية، وعن الرأي والرأي الآخر، في الآونة الأخيرة في سورية، وبخاصة بعد الثورة السورية 2011، ورُفعت كشعار لدى الكثيرين، بعضهم لم يرفعه سابقًا، والأسئلة التي تدور حول الديمقراطية كثيرة، فهل الديمقراطية، شعارات فقط؟ وهل هي مجرد موضة ثقافية توظف لخدمة هذه السياسة أو تلك لدى البعض؟ أم أنها سلوك حياتي يمارَس من قبل الأشخاص والمؤسسات الاجتماعية والسياسية في مجالات الحياة كافة؟
في الواقع، الحديث عن الديمقراطية في سورية يتبعه محاذير كثيرة، أولها الخوف من استعداء السلطة الاستبدادية، وهذه نتيجة طبيعة، وقد لمسها غالبية السوريين، وبخاصة في مرحلة الثورة، إلى عدم الضمانة -على الإطلاق- من رحابة صدر بعض الديمقراطيين السوريين حول رؤى أخرى، قد لا تتفق معهم في بعض الأحيان!
فكم من السوريين العاملين في الحقل الثقافي والسياسي السوري، القدامى أو الجدد، لا يملون من الحديث عن الديمقراطية، والرأي والرأي الآخر، وهم في الوقت نفسه لا يرضون إلا بالرؤى التي توافق آرائهم وأمزجتهم! وكم من هؤلاء يشددون -في كل مناسبة سياسية- على التمسك بمبادئ الديمقراطية، مثل حرية الفكر والرأي والقول، والعدالة، والمساواة، وسيادة القانون، ولكنهم كثيرًا ما يضيقون ذرعًا بوجهات نظر الآخرين، ولو كانت صائبة ومنطقية، بل يصل الأمر بهم إلى فقدان صداقاتهم، إذا اختلف البعض معهم في وجهة نظر، سياسية كانت أم اجتماعية أم مهنية… الخ، وقد تصل إلى حد الخصومة والمقاطعة، والأسى يزداد عندما تأتي هذه الخصومة والمقاطعة من أشخاص نالوا حظًا وافرًا من المعرفة العلمية والممارسة السياسية، وفي الوقت نفسه يشتكون ويندبون دائمًا من غياب الديمقراطية، ومن القمع والتسلط… إلخ.
كل ما سبق يدفع إلى ضرورة تحديد مفهوم السلوك الديمقراطي، الذي من المفترض أن يكون تجسيدًا للقيم والمعايير الديمقراطية الذي يتصف بالآتي:
يصدر السلوك الديمقراطي عن الشخصية المستقلة، الناضجة اجتماعيًا وسياسيًا في المواقف المختلفة التي تستثيره.
يعد السلوك الديمقراطي بخصائصه المختلفة سلوكًا مكتسبًا ومتعلّمًا في مؤسسات اجتماعية وسياسية (الأسرة، المدرسة، وسائل الإعلام، المؤسسات الدينية، التنظيمات الحزبية السياسية… الخ) في مجتمع محدد، مثل أي سلوك آخر يصدر عن شخصية الفرد.
أعتقد حتى يسود السلوك الديمقراطي بخصائصه المختلفة في ثقافة أفراد المجتمع، أي يصبح جزءًا من قيمهم واتجاهاتهم وتفكيرهم، كأشخاص يمتلكون سمات الشخصية التفردية، يجب أن يتعلموا منذ الطفولة هذه الخصائص -أي خصائص السلوك الديمقراطي- في الأسرة، المدرسة، وسائل الإعلام، الأحزاب والتيارات السياسية… الخ، عندها يمكن أن يسلك معظمهم سلوكًا ديمقراطيًا، لدى الأجيال القادمة في المستقبل.
من المفترض أن يتجسد السلوك الديمقراطي للفرد في كل مجالات العلاقات الإنسانية، ابتداء من الأسرة، المؤسسة الاجتماعية الأولى في المجتمع، من خلال المشاركة والحوار حول أمور تسيير شؤون المنزل من كافة أفراد الأسرة، وهي أول تجسيد للسلوك الديمقراطي، على أن يكون هناك مساواة كاملة بين الرجل والمرأة، وبالتالي انزياح للسلطة الذكورية التي تتضمن تسلطًا غير مقبول من قبل الرجل/ الزوج، فالنقاش الحواري بين الزوجين يعطي للأبناء درسًا في ممارسة السلوك الديمقراطي. إضافة إلى إشراكهم في الحوار مع احترام آرائهم ينمّي لديهم الحرية في الاختيار والآراء، ويصقل شخصيتهم التفردية في المستقبل.
كذلك الحال في المؤسسات التعليمية، إذا ما تعلم الطلبة عن طريق أساتذة ديمقراطيين، وتشربوا القيم الديمقراطية ومارسوها على أرض الواقع. سنجد المزيد من الأشخاص المنفتحين على الآخرين والرافضين للتسلط والمتسلطين.
وقد أوضحت نتائج العديد من الدراسات[1] أن سلوك المدرس الديمقراطي يضع أسس الرضا، ونمو الإبداع، والاستقلالية، والاتزان الانفعالي وبروز الميول الاجتماعية عند الطلبة، أما سلوك المدرس المتسلط، فينتج عنه انخفاض في الدافعية التعليمية عند الطلبة، وضعف في قدرتهم على التركيز، وزيادة في توترهم الداخلي وميلهم إلى المسايرة. وهذا يفسر أن التعليم يمكن أن يقلل من التسلطية، ويرفع مستوى الديمقراطية عند الطلاب الذين يعيشون في مجتمعات يكون فيها التعليم غير تسلطي في طبيعته، وعن طريق مدرسين غير تسلطيين، وهذا ما تفتقده المؤسسات التعليمية السورية كافة.
على الرغم من أن المعرفة هي المكون الأساس للسلوك الديمقراطي، فإن ذلك لا يعني أن الشخص الأكثر معرفة سيكون هو الأكثر ديمقراطية، ولكن الشخص الأكثر ديمقراطية هو ذلك الذي يكون لديه الاستعداد لتقبل وجهات النظر المعارضة أو المضايقة.
أيضًا ما يمكن أن تقوم به المؤسسات التعليمية في تعليم الطالب كيفية ممارسة الديمقراطية، من خلال مساعدته في أن يصبح واعيًا بتحيزاته الشخصية والاجتماعية، ثم مساعدته في المرحلة التالية في كيفية التخلص منها، ومن المتحيزات الواضحة، عند معظم الطلبة السوريين، التمركز حول الذات، العائلة، الطائفة، أو المذهب الديني، الأصل العرقي، التي عادة ما تمنعهم من أن يحكموا على الآخرين بموضوعية. وقد أوضحت العديد من الدراسات أن الكثير من الطلاب متحيزون في معلوماتهم التي يجمعونها، وفي الطريقة التي يحكمون بها على المعلومات التي يحصلون عليها، وفي المضمون الذي يخرجون به من المعلومات وعن سلوكهم وسلوك الآخرين، ومعظم الأحيان لا يستخدمون المنطلق نفسه، في تعليل أفعالهم الخاصة، في مقابل تلك التي يفعلها الآخرين، وهناك أدلة كثيرة على أن معظم الطلاب يرون سلوكهم الخاص كانعكاس لحكم منطقي في مواقف محددة، وفي الوقت نفسه يعزون سلوك الآخرين لدوافع غرضية.
وللتخلص من هذه التحيزات المرضية، لا بدّ من تعليم الطلبة كيف يفكرون تفكيرًا نقديًا، وكيف يحكمون موضوعيًا على وجهة نظر الآخرين، وبالتالي يتعلمون كيف يصبحون شخصيات ديمقراطية في المستقبل.
أيضًا في التيارات والأحزاب السياسية، فقبول الأفراد لبعضهم البعض يعدّ أمرًا حيويًا لاحترام الذات، والشعور بأهمية الفرد وتفرده ضمن التنظيم السياسي، حتى تظهر الديمقراطية في كل ركن من أركان الحياة العامة، كاحترام الآراء الأخرى، سياسية، دينية، اجتماعية، مهنية ثقافية… إلخ، وقبول الاختلاف والتفرد لدى الجميع، يعكس نضوجًا في السلوك الديمقراطي.
وأخيرًا حتى نحصل على ممارسة لسلوك ديمقراطي سليمة في المستقبل، يجب التأسيس للفكر النقدي، وهو المتطلب الأساسي للتفكير الديمقراطي، الذي يترجم على أرض الواقع بالممارسة للديمقراطية، الذي يمكن أن يحدث ذلك عندما نصمم التنظيمات الاجتماعية، التعليمية والسياسية كافة، كتنظيمات ديمقراطية، ونشجع الاتصال الديمقراطي بين أعضائها، ونترجم معارفنا إلى توصيات تدور حول الطريقة التي يمكن بها أن تمد هذه المؤسسات بالفرص العملية لممارسة السلوك الديمقراطي.
[1] Wolf .H. M. Muller, the need for teacher training and a training model to promote democratic teaching behavior, seniti pedagogical experimentalist, 1978.
طلال المصطفى
[sociallocker]
جيرون