في نقد الثورة



أهمّ ما تفعله الثورات في أوطانها هو التدمير والتخريب والتأسيس والتعمير، معًا، ويُرجِع أحد الباحثين الغربيين نمو العلوم الإنسانية والنفسية وتطور النظم السياسية، في تلك البلدان، إلى ما شهدته من حروب ونزاعات وثورات، فمن يُنكر أن مصدر العلوم النفسية والاجتماعية والسياسية كان فرنسا وإنكلترا وأميركا؟

تطرح الثورة السورية أسئلة بالغة الأهمية، منها: لماذا انحاز الكثير من الجماهير إلى الثورة السورية، وصمت الكثيرون، واختار البعض الانحياز إلى كل ما كان بالضد من الثورة السورية، من الكلمة إلى البندقية؟

كانت اللاذقية المحافظة الأولى التي هبّت فيها احتجاجات كبيرة ضد النظام، مناصرة لتظاهرات حوران، ثم انتقلت تلك الاحتجاجات إلى الشريط الساحلي السوري (الصليبة، جبلة، بانياس، طرطوس، انتهاء بحمص). والملاحظ أنّ جغرافية هذه الاحتجاجات وقعت في محافظات مُقسّمة سكنيًا، بين أحياء سكنية كلاسيكية سنّية، وأحياء مُحدثة يقطنها علويون، وساهم هذا المشهد المُبكّر في قراءة الثورة طائفيًا، من قِبل أنصار النظام الذين قالوا: سنّة الساحل قاموا نصرة لحوران، لوجود جامع ديني بينهم، ما يعني العبارة التي جرى تداولها على ألسنة عوام العلويين بل نخبهم أيضًا: “السنّة قاموا”!

من الإنصاف القول: إنّ هذا الشريط الساحلي هو الأكثر كبتًا طائفيًا، وأقل تحضرًا اجتماعيًا وعمرانيًا، فالطبقة السنّية ما فوق الوسطى والبرجوازية، إن صحت التسمية، لم تُساهم في عملية الحراك، بل على العكس، حاولت أن تلعب دور الوسيط لإيقاف الاحتجاجات، وتلبية رغبات المحتجين، عبر فتح قنوات مع المؤسسة الأمنية، والتي تشير المعطيات وقرائن الحال إلى وجود انقسام في هذه المؤسسة، بين فريق يريد الإصلاح إلى الحد الذي يُرضي المتظاهرين، وفريق يريد استمرار الاحتجاجات حتى لو تم فيها سفك الدماء، وهو ما حصل في نهاية المطاف، وهو الأمر الذي تكشفت نهايته مع اغتيال “خلية الأزمة”.

حفَر هروب “بن علي”، وضرب القذافي في قصره ثم وقوعه بأيدي الثوار الليبيين، ورحيل “مبارك”، وإحراق وجه علي عبد الله صالح، ذاكرة ومخيالًا وحلمًا عامًا، لدى كل ثوريي سورية، بأنّ الأسد ماض إلى المصير نفسه، وأن إيقاف الاحتجاجات يعني ذهاب هذا الحلم القابل للتحقق بين ليلة وضحاها، فالكل معنا: أميركا، الاتحاد الأوروبي، مصر، الخليج، تركية، فيا لها من حماقة أن يترك السوريون ثورةً، كل قوى الأرض معها!

هذا الحال دفع بالكثيرين إلى الالتحاق بالثورة، إيمانًا من الأكثرية السنّية بوجوب عودتها، كمؤثر وفاعل سياسي واجتماعي في سورية، وانتهازية من البعض الذي قرأ الثورة بميزان الربح والخسارة، وجهالة وحماقة من البعض الآخر الذي رأى في الثورة فرصة، لتثبيت مقولاته الإسلامية (حزب التحرير مثلًا)، فعلى الرغم من الآلام، فالحلم قاب قوسين أو أدنى. وشكّل الخطاب الديني وسيلة لإشعال الجماهير، وكما يقول غوستاف لوبون: الجماهير محافظة بطبيعتها، على الرغم من تظاهراتها الثورية؛ ذلك أنّ الماضي أقوى لديها من الحاضر، إنّ الدعاية ذات أساس لا عقلاني يتمثل بالعقائد الإيمانية.

أصبح الشيخ عدنان العرور “فولتير سورية”، والشيخ نديم بالوش، من أوائل المتظاهرين (سجين قاعدة سابق)، يظن البعض أن تقدّم الإسلاميين للعمل الثوري هو أمرٌ دُبّر بليل مع النظام، والصواب ليس الأمر كذلك، وإنما يكفي -مخابراتيًا- أن تترك للإسلامي المؤدلج حرية العمل، ليعطيك النتائج التي ترجوها!

هرب المتظاهرون، بعد تشديد القبضة الأمنية عليهم ودخول الثورة مرحلة العمل المسلح، نحو الجبال أو تركية، ومن هذه اللحظة تم “لغبصة” الثورة السورية، ليس بسبب تسليحها، وإنما ببعدها عن معاني التحرر التي قامت لأجلها، وتكونت طبقة من المنحازين إلى الثورة بمعان ليست تحررية ولا تقدمية، فمثلًا هناك في جبل الأكراد عائلات مركزية معروفة بمجدها العائلي “الأغاواتي”، رأت أن الطبقة التي حملت السلاح من العائلات الأقل شأنًا تاريخيًا، فاختارت الهروب إما إلى مناطق النظام، أو الخروج من سورية، والزج بنفسها في المعارضة السياسية، لوجود أملٍ في أن تكون هذه الثورة معبَرًا لاستعادة المجد العائلي، وهناك طبقة من الفقراء الذين كانوا عرضة للاضطهاد الاجتماعي تاريخيًا، قبل مجيء البعث، ومع البعث شعرت بتحقيق شيء من كرامتها وعدالتها؛ فلم تحمل السلاح، واختارت الوقوف على الحياد، فأصولها السنية منعتها من أن تكون ميليشيا قاتلة ومجرمة، ووضعيتها الاجتماعية التاريخية منعتها من حمل السلاح والمشاركة الثورية المسلحة، أي يغلب على المشاركة الثورية المسلحة، في جبل الأكراد، حضور الطبقات الوسطى من مختلف قرى المنطقة، وعندما ترى إحدى العائلات الثورية من هذه الطبقة تهديدًا لمكانتها الاجتماعية؛ تلجأ إلى تقوية نفوذها، بالتحالف مع جماعة إسلامية مسلحة، كما حدث في جبل الأكراد من جلب عائلة لجماعة من (داعش)، نكاية بعائلة مهيمنة على القرية مرتبطة بالجيش الحر.

هذه القصص التفصيلية تعيدنا إلى فهم الحضور العائلي، في المجتمع السياسي السوري، فكما نعلم أنّ العائلات الكبرى، في دمشق أو حلب أو حمص، كانت تتقاسم الوجاهة ثقافيًا وفكريًا، وكان الصراع الوجاهي بين هذه العائلات وسيلة لاختيار مواقعها الأيديولوجية لاحقًا، بين اليسار واليمين وما بينهما! وليس عبثًا أن عائلات سورية عريقة، على الرغم من وجودها الغربي قبل الثورة بعشرات السنوات، لم تظهر أي امتعاض من سلطة البعث حتى قامت الثورة السورية، وحضرت إلى مواقع الثورة السورية لاعتبارات عائلية، من دون أي رصيد معارض سابقًا في ديار الغرب.

وهذا يعني أنّ انتكاسة الثورة نحو الدِّين يمكن أن نجد لها قراءات مفهومة وتبريرية، ولكن هناك انتكاسات أخرى، نحو الوجاهة والعائلة والعشيرة والملة، لا يمكن أن تُشكّل دافعًا تحرريًا نحو الأمام، إنّ التسامح في جعل بيانات العرعور أكثر توغلًا في نفوس السوريين، من بيانات وكلمات أساتذة علم الاجتماع السياسي السوريين المرموقين، وعتاة المعارضة السياسية العميقة، هي التي سمحت بتغوّل العشيرة والوجاهة والمال في الثورة لاحقًا. لم يكن لأي فعل خارجي أن يكون ذا فاعلية مؤثرة في الثورة؛ لولا وجود قلب ويد وجيب سوري، يتقبّل هذه الفاعلية.

الثورة غير المنظمة لا يمكن أن تنتصر على نظام منظم، حتى على مستوى الميليشيات الطائفية، ولم يكن هناك رغبة جدية في مأسسة الثورة سياسيًا وعسكريًا، وفق رؤية حديثة من السوريين أنفسهم، لدوافع أصبحت مكشوفة ومفضوحة.

إنّ نقد الثورة اليوم لا يعني التملص منها، بقدر ما يعني الحفر في إيجاد بصيص أمل، لاستئناف معركة الحرية والديمقراطية، والتي ربما تكون بحاجة إلى معان بعيدة عن مفهوم الثورة الكلاسيكية، وإنما بالعودة إلى هذا المجتمع السوري، بأمراضه وعفنه وحلوه وسكره وملحه. من هذا المجتمع، يمكن لنا التأسيس لرؤية جامعة موحدة للسوريين، تحقق كل مصالحهم المادية والمعنوية والوطنية، وهذا أفضل ما تقدمه الثورة للسوريين.


منصور حسنو


المصدر
جيرون