أرجوك اعتن بأمي

11 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2018
10 minutes

لا يستطيع أي قارئ لرواية (أرجوك اعتنِ بأمي)، أن يمنع نفسه من التماهي بها، وأن يندمج كيانه بأحداثها؛ إذ استطاعت الكاتبة، بكل براعة، أن تجمع أنواعًا من المشاعر المختلفة والمتناقضة، تجعل القارئ يشعر وكأنه جزء مما يحصل، بسبب تلك الحقيقة الثقيلة الوطء على نفوسنا، والتي تحرك فينا مشاعر، ربما تكون راكدة، تجاه بعض الأشخاص والأشياء في حياتنا، لتقول لنا: إن أكثر الأشياء فداحة على ذاكرتنا تلك التي ظلت قربنا زمنًا طويلًا، وكنا نعتبر وجودها بدهيًا في حياتنا، لذا لم نعرها الاهتمام أو الوقت، إلى أن يأتي يوم نفقدها فيه، ونتعرض لصفعة مؤلمة جميعنا، حين نعلم أن ذاك الشيء الذي فقدناه هو الأمّ!

تطرح الكاتبة الكورية (كيونغ سوك شين)، في هذه الرواية، العديد من القضايا التي طفرت إلى الوجود، بسبب فقدان عائلة كورية لأمها (بارك سونيو)؛ إذ شكل غياب الأم عقوبة قاسية لأولادها وزوجها الذين لم يلتفتوا إليها، حين كانت تكدح وتشقى، لتوصلهم إلى بر الأمان. لقد اعتبروا أن ما تقوم به من المسلمات؛ لذا لم يخطر ببال أي منهم أن يفعل شيئًا لإسعادها، هي التي ضحت بشبابها وكرامتها وصحتها، تُنسى وكأنها لم تكن في حياتهم. لقد شعرت ابنتها الكاتبة (تشي هون) والتي يفترض بها أن تملك حسًا إنسانيًا عاليًا بالألم العميق، حين أخبرت أخاها الأكبر (هايونج تشول) أثناء بحثهما المشترك عن أمهما، أنها وضعت قائمة بالأعمال التي ترغب في القيام بها، في السنين العشر المقبلة، ولكنها لم تخطط لفعل أي شيء مع أمها، تلك الريفية البسيطة التي تشعرهم تصرفاتها بالحرج، في مجتمع بدأت تظهر عليه بوادر الحداثة والبعد عن الأصالة؛ فكبار السن وطقوسهم التي يتشبثون بها، لم تعد تعني كثيرًا لهذا الجيل الذي يعيش تحولات اجتماعية وثقافية، يدفع ثمنها كبار السن، حين يفقدون أسلوب حياتهم الماضي الذي أصبح محط سخرية الأبناء ومثارًا لتندرهم..

تسرد الكاتبة في روايتها تفاصيل كثيرة عن الحياة الكورية، في الماضي والحاضر؛ ما يجعل العمل وثيقة اجتماعية وتاريخية تنسرب من تلافيفها مشاعر دافئة وحميمة، حين تصر الأم على إحياء طقوس الأسلاف، على الرغم من كثرتها ومشقتها وعدم اكتراث من حولها بمناسبة كهذه، لكن حين وقعت أعينهم على السمكة التي وضعتها أمهم على المائدة دون أن تسلخ جلدها؛ اعتبر الجميع فعلتها تلك نذير شؤم وبدؤوا ينسبون كل مصيبة تحل بهم إلى أمهم التي لم تكلف نفسها عناء سلخ جلد السمكة.. لم يفكر أحد منهم أنها أشفقت على يدي ابنتها المتجمدتين وقالت لها: من يأبه إذا لم نسلخ جلدها؟!

قدمت الكاتبة في أربعة فصول معنونة، سردًا للأحداث على لسان أفراد من العائلة، وما يشعرون به من ندم عميق ومسؤولية عن ضياع أمهم. تتعدد الأصوات السردية في الرواية؛ حيث تتحدث كل شخصية من شخصياتها عن ذكرياتها مع الأم، والتي تبدأ لحظة غيابها، ويتسع حجم الدائرة من حدود الحادثة الأخيرة، لتشمل عمرًا بأكمله.

كما تضع الحادثة شخصيات الرواية في مواجهة مع أنفسهم؛ حيث يبدأ كل شخص باستعادة تفاصيل حياته الماضية مع أمه التي بدأت تختفي من حياتهم منذ زمن.. تذكروا كيف ألغت الوالدة الاحتفال بيوم ميلادها، وطلبت إليهم أن يقدموا لها الهدايا في عيد ميلاد زوجها. لم يستنكر أي منهم اقتراحها فكل واحد منهم لديه حياته ومشاغله التي يظن أنها أهم بكثير من تلك الطقوس البالية.

(بدأتم جميعًا تمنحون الوالدة هداياها، في يوم ذكرى ميلاد الوالد، وهكذا فقد بدأتم تتجاهلون ذكرى ميلادها شيئًا فشيئًا). ص8

وعلى الرغم من أن الابنة التي تروي معظم الأحداث في الرواية تمتهن الكتابة، فإنها عجزت عن كتابة صيغة مناسبة للإعلان عن فقدان أمها، وبعد نقاش طويل، اقترح الأخ الأصغر أن يعلنوا عن مكافئة مادية لمن يجدها، فوحده المال سيحرك قلوب الناس.

بدأت كل القصص -التي دفنوها في الماضي وتجنبوا الخوض فيها- تكبر وتتفاقم وكل واحد منهم يوجه أصابع الاتهام للآخر، ويراه مسؤولًا عن فقدان الوالدة..

لجأت الكاتبة إلى ضمير المخاطب؛ حيث تتولى الابنة (تشي هون) سرد الأحداث، لتضع القارئ في قلب الحدث، وتشعره أنه جزء مما يحصل. وقد اعتمدت في البناء السردي للرواية على راوٍ يخاطب الجميع، مما يتيح تفسيرًا للأحداث، حتى إنها لم تستثنِ نفسها من صيغة الخطاب، تلوم نفسها وتجلدها عما بدر منها من تفريط بحق والدتها.

سيشعر القارئ بالسخط، حين يقرأ في فصول الرواية عن خلافٍ وقع بين الأم وابنتها، بسبب كلب ظنت الابنة أن أمها تسيء معاملته، فاتهمتها بأنها ريفية مريعة، لكنها حين اكتشفت الحقيقة لم تكترث، ندمت فقط بعد غياب والدتها. ربما تطلب منا الكاتبة أن نستيقظ من غفلتنا، وألا نكون كأبطال الرواية نندم بعد فوات الأوان.

أما الفصل الذي يتحدث فيه الابن الأكبر (هايونج تشول) فقد لجأت الكاتبة فيه إلى ضمير الغائب، ربما لتصف المواقف من عدة زوايا؛ إذ إن شخصيات الرواية تتحدث عن المواقف ذاتها بطرق مختلفة، لتظهر حقيقة الشخصيات بوضوح وجلاء في القوة والضعف. فالأبناء لم يكونوا أوفياء لأمهم، ولم يقدروا نعمة وجودها، رغم إجماع كل من عرفها على تمتعها بلمسة ميداس الذهبية، حيث تهب الحياة والخصب لكل ما تقع يداها عليه.

(هايونج تشول) أحب الأبناء إلى قلب أمه التي طالما خاطبته بتلك العبارة (لأنت أغلى من الذهب عندي، يا هايونج تشول) وكانت دائمة الاعتذار له، لأنها لم تقدم له الرعاية الكافية، ليصبح مدعيًا عامًا. لم تعد لديه أي رغبة في القيام بشيء سوى البحث عن أمه. لقد نجحت الكاتبة بالفعل في استثارة مشاعرنا بأسلوبها البسيط وطريقة سردها للأحداث، ومن أكثر المشاهد إيلامًا وحفرًا في وجدان القارئ، حين يتذكر هايونج تشول أنه في اللحظة التي ضاعت أمه فيها في محطة مترو الأنفاق في سول، كان هو في حمام الساونا يتعرق، وأخته في الصين تستمتع بمشاهدة الطائرات الورقية.

أما الأب الذي كان أكثرهم إهمالًا وإساءة إليها، ولم يصغ لتوسلاتها الدائمة له بألا يسرع في مشيته كي لا يفقدها، فقد عاد إلى البيت وحيدًا، وأصبح حضورها طاغيًا في حياته التي بدأت تفاصيلها بالتدفق أمام عينيه كشريط سينمائي. بدأت الدموع تنهمر من عينيه، وهو يتجول في البيت باحثًا عنها، لكنه لم يجد سوى أكداس من الذكريات تنفع كقصاص عادل لهم: (جعلك اختفاء زوجتك تشعر أن قلبك سينفجر كلما فكرت في مشيك السريعة). وفي غمرة انشغاله بذكرياته عنها، تأتي موظفة من دار الأيتام لتروي له تفاصيل عن زوجته لم يكن أي منهم يعرف شيئًا عنها.

لقد كانت زوجته تقوم بتنظيف دار الأيتام، وتحمم الأطفال وتغسل ثيابهم، إضافة إلى تبرعها بالمال الذي كان يرسله أبناؤها لها، وبالمقابل طلبت من تلك الموظفة أن تقرأ لها الكتب، لأن نظرها أصبح ضعيفًا. لم تخبر الموظفةَ بأمّيتها التي كانت تخجل منها، والتي كانت تراها سببًا في عدم احترام زوجها وأبنائها لها… أستغرب كيف استطاعت أن تخفي أمام الموظفة فخرها بابنتها.

في القسم الرابع من الرواية، تختم الكاتبة مع رسالة أرسلتها الأخت الكبرى لأختها الكاتبة، كثيرة الأسفار، والتي حملتها الأقدار إلى الفاتيكان، لتكتشف أنها أصغر دولة في العالم. وهناك تذكرت وصية أمها بأن تجلب لها سبحة من خشب الورد. تقول الأخت الكبرى في رسالتها: كم هو محزن في حقها أن تبذل كل رخيص وغال من أجلنا، من دون أن تجد بيننا من يفهمها. وقد تساءلت أختها: هل تظنين أننا سنحظى بنعمة تواجدها معنا مجددًا، ولو ليوم واحد فقط؟! هل تظنين أن الحياة ستمنحني بضع ساعات، لأقول لها إنني أحب كل التضحيات التي بذلتها؟!

إنه الندم يعتصر الجميع ويشكل قِصاصًا عادلًا لعائلة بأكملها، تناست الجذر الراسخ الذي دفع بها إلى الوجود… الكل يتمنى عودة الأم ليتصرف بشكل مغاير وليعتني بها. ربما أدرك اليأس الكاتبةَ في النهاية، حين تهاوت قرب أحد التماثيل في الفاتيكان، لتبوح بكلمات عجزت عن قولها لأمها، في ما مضى، فما كان منها إلا أن تطلب من الله أن يعتني بأمهم، ويتكفل بها: أرجوك.. أرجوك اعتنِ بأمي.

فوز الفارس
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون