on
إلى جهاد الخازن.. اترك السوريين مع آلامهم
جهاد الخازن يعرف غوطة دمشق أكثر مما يعرفها جميع كتّاب افتتاحية (نيويورك تايمز) حتى الصهيونيون منهم، هكذا بدأ الخازن مقاله المنشور في صحيفة (الحياة)، بعنوان “جحيم أهل سورية مستمر”، بتاريخ 24 شباط/ فبراير 2018، ويوضح بعد سطرين أنه يشير إلى مقال كاتب صهيوني -بحسب وصف الخازن- بعنوان “لبناء قضية لمحاكمة المستر أسد بجرائم حرب”، ثم يتابع الأستاذ الصحفي جهاد الخازن احتجاجه، و”فضح” الازدواجية الأميركية بالتعامل مع منطقتنا و”إسرائيل”، فيكشف لنا المقاييس المزدوجة للسياسة والإعلام الأميركي الذي لا يرى جرائم حكام “إسرائيل” بحق الفلسطينيين، ويُثقل على قرّائه بسرد أسماء لصهيونيين زملاء لنتنياهو، (أكذب عليكم؛ إن ادّعيت معرفة نصف هذه الأسماء)؛ فيقف القارئ خاشعًا أمام حجم المعرفة وكمية المعلومات، خاصة أن الأستاذ الخازن يفاجئنا أيضًا بمعلومات تاريخية عن فلسطين وأحقيتها للفلسطينيين، غفلنا عنها ربما كعوام الناس الذين لم يسمع بأسمائنا السيد جهاد، ولا ينسى عميد الصحافة العربية أن يُذكرنا برعب “إسرائيل” من إيران و”حزب الله”، أعمدة الممانعة الأسدية؛ لأن نتنياهو حذر إيران فقط ولم يحذر تركيا.
ترددتُ قبل أن أكتب ردًا على اسمٍ بحجم جهاد الخازن وشهرته وتاريخه، فأنا مجرد صحافية سورية، بالكاد يعرف اسمها بضع مئات، فكيف سيكون لكلامي أهمية أمام أحد أشهر مخضرمي الصحافة العربية. لكن ما علمتني إياه أحزان أمهات سورية أن لا اسمَ ولا شخصَ يستحق أن يكون فوق النقد، أمام قلوبهن التي تنزف يوميًا؛ علمني التنقيب في أسماء ضحايا الحرب على سورية أنّ بلاغة اللغة ولمعان الاسم وانسيابية الأفكار وانتقاء الحقائق وقوانين سوق الإعلام والأجندات، لا تبرر، لأي شخص كان، التجارة بمآسي أهل سورية أو فلسطين أو اليمن أو ليبيا.
ما كشفته لنا ثورات الربيع العربي أن ليس فقط حكامنا من حكمَنا باسم فلسطين، بل أيضًا كثير ممن صدقنا أنهم نخبتنا. الطاغية السوري وأبوه حكموا سورية 40 عامًا، تحت حجة مقاومة الصهيونية وتحرير فلسطين، وفرضوا معيار الوطنية وفق قياسهم: “من يقول للحاكم لا؛ فهو يدعم إسرائيل ويخون فلسطين”.
إنها الثنائية نفسها التي فرضها السيد الخازن على قارئه، فبرر نفسه قائلًا: “لا أؤيد النظام في سورية، ولا أؤيد المعارضة. أؤيد الشعب السوري”، تاركًا للقارئ تخيل كلمة معارضة تحوم حول هيئات سياسية فرضها الإعلام فاسدة مفسدة، ورايات جهادية متاجرة بالإسلام السني، وبالتالي وضع القارئ أمام خيارين: إما الأسد أو المعارضة. هذه اللعبة الصحفية السياسية يدرك معناها جيدًا من كان بخبرة السيد الخازن، ويعرف أنها من أساسيات لعبة السياسة والحكم والتضليل.
المفاجئ أن يلجأ كاتب بحجم الخازن إلى أسلوب “ساذج” في اللعبة الإعلامية والدعائية، فيجتزئ الحقائق من سياقها؛ إذ يقارن مقتل فقط “310” مدنيين في الغوطة، بقتل “إسرائيل” 2200 فلسطيني في غزة بحربها الأخيرة. ويتجاهل تمامًا أن عدد من قتَلهم النظام الأسدي في سورية منذ 2011 تجاوز نصف مليون سوري، وعدد من شرّدهم تجاوز عشرة ملايين سوري. ويتجاهل أيضًا أهمَّ قاعدة حقوقية وإنسانية وأخلاقية: أن الجرائم ضد الإنسانية لا تقارن بالأرقام.
أنا الصحافية السورية الصغيرة التي لم تجلس مع أي حاكم أو سياسي عربي ولا غير عربي، ولا تملك أي خبرات سياحية، لا في بلاد العرب ولا الغرب ولا الشرق، ولا ذكريات لي في فنادق مؤتمرات دافوس وقمم العشرين الكبار، لأسحر بها قرّائي، أريد أن أقول للأستاذ الخازن: إن السوريين، وهم في عمق مأساتهم، يبكون فلسطين كما يبكيها أهلها، ويقدّسون أخوة الوطن والإنسان مع الأكراد والعرب وكل قوميات السوريين، ويوم نبكي الغوطة وإدلب وعفرين وحمص، نبكي دمشق واللاذقية، ولسنا بحاجة إلى من يعلمنا حق السوري والفلسطيني، وازدواجية المعايير الأميركية، واستغلال الحكومات لمأساتنا، لكننا نرفض أن يتاجر بآلامنا أي شخص كان.
أنا السورية لا أفتخر ولا أفرح أن تجلس ممثلة الرئيس الأهوج ترامب المدعوة “نيكي هالي” تُطالب بوقف المجزرة في الغوطة، هذه المتعجرفة منذ شهرين، وقفت أمام الكاميرات تهدد العالم بـ “كعب حذائها العالي”، لأنه عارض قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس. السوريون يميزون جيدًا بين انتهازية السياسة الأميركية وغيرها وبين حق السوريين كشعب وبشر بالخلاص من طاغية، نعم نطالب العالم على الأقل بإدانة جرائم الطاغية الأسد، لكننا لا نصفق لكل من ندد؛ فقد تعلمنا كيف أنهم يتاجرون بأرواح أطفالنا.
اسمح لي الآن أن أخبرك ما الذي يعتصر قلبي حقًا، ويقتل الحياة في عيني، أنا المواطنة السورية التي تشعر بالذنب يقتلها في كل لحظة، لأنها مطمئنة إلى أن ابنتها تنام بسلام في سريرها، بينما أولاد سوريي الغوطة يُنتشلون من تحت الأنقاض. أنا المواطنة السورية التي تعرفت على أصدقاء وإخوة وأبناء من صور تحمل بقايا إنسان، عندما رمى سيزر صور ضحايا التعذيب في أقبية الأسد الذي تدافع عنه.
ما يعتصر قلبي أنا المواطنة السورية أن صحافيًا مثلك، يكتب في أكبر المنابر العربية الصحافية، لا يكترث لأن يقال عنه إنه دافع عن قاتل الأطفال وهادم المدن ومهجّر الشعب.
ما يعتصر قلبي بحق أنا المواطنة السورية أنه لم يبق مرتزق من طول الأرض وعرضها لم يأت للمتاجرة والقتل في بلدي، ثم اتهموني أنا بأنني “داعشية”، لأن بشار الأسد الذي تدافع عنه جعل من جواز سفري لعنة لا شفاء منها في المطارات، وتهمة جاهزة تنتظرنا أينما حللنا وأينما مشينا.
ما يعتصر قلبي أنا المواطنة السورية أن شبابًا سوريين انتحروا من الظلم في بلدك لبنان، وفتيات سوريات عملن في الدعارة، قسرًا، وأخريات تم ابتزازهن، وأسرًا كاملة تسولت في طرقات بلدك، ولم تمتشق قلمك للدفاع عن أولئك المقهورين الذين ظلمتهم حكومة بلدك، وقد تعامل معهم بعض أبناء جنسيتك بكل العنصرية التي في العالم، وشتَمهم بعض إعلامك بشتى أنواع السباب، ولم نقرأ لك مادة واحدة، تذكرهم أو تدافع عنهم أو على الأقل تقول إنك صحافي يتحدث عن أوجاع الناس.
الأستاذ جهاد الخازن.. أجد أن من واجبي أن أطلعك على بعض المعلومات عن الغوطة الشرقية التي تحنّ أنت إليها وتقول إنك تعرفها، الغوطة الشرقية محاصرة منذ ست سنوات من قبل بشار الأسد ونظامه، والغوطة الشرقية فقدت خلال الأيام الخمسة الماضية ما يزيد على 500 إنسان، والغوطة الشرقية اليوم عبارة عن دخان وحرائق، دمار وأشلاء، دموع ودماء، والغوطة الشرقية التي تموت، أمام الكاميرات على الهواء مباشرة، تعيش الجوع ونقص الأدوية وسقوط القذائف على مدى سنوات الحصار الست، والغوطة الشرقية ضحية الكيمياوي الذي انشغل به العالم، وأقنع السوريين بأنه ما من عدالة ستأتيه من العالم الغربي.
الأستاذ جهاد الخازن
لا أطالبك بأن تكتب وتدين جرائم الإبادة في سورية، فربّما لك ظروفك ومبرراتك، ولا حق لي في حسابك كشخص على ذلك، سيحاسبك التاريخ كصحافي مشهور. لكن لا تكتب عن آلام السوريين وأطفالهم، لأنك تعشق مشمش الغوطة ومشاوير المساء فوق قاسيون، فيجب أن تعرف أسماء أطفال الغوطة وأهلها، قبل أن تدرك حقيقة أزهار شجر الغوطة وأسرار نسائم الياسمين.
هنادي الخطيب
المصدر
جيرون