الحاسة اللغوية السادسة



منذ مدة، كتبتُ في عجالة، عن حزبٍ يميني عنصري ومتطرف في ألمانيا، مستخدمةً كلمة “صعود”، متأثرةً بشكل لا شعوري بالطريقة الشائعة التي يُعبّر بها عادةً عن ظهور ذلك الحزب. عدتُ وحذفت ما كتبت، متسائلة: كيف للعنصرية أن “تصعد” أو أن تكون “صاعدة”، وهي السقوط المدوي في هاوية مسدودة!

هَب أنك تتصفح في جريدةٍ تتبنى موقفًا معارضًا لنظام الأسد، وتقرأ فيها -على سبيل المثال- عنوانًا عريضًا كالآتي: “دمشق تنفي وجود محرقةِ جثث بالقرب من سجن صيدنايا”. تُرى ما السؤال التي يراودك مباشرة أثناء قراءة هذا العنوان؟ أعتقد أنه سؤال من شأنه أن يصنع صخبَ الكائن وسخطه، كالآتي: دمشق مَن ينفي، أَم السلطة التي تسيطر على هذه المدينة العظيمة؟! هذا السؤال هو ما راودني فعلًا، يوم قرأتُ العنوان إياه، وهو الذي يقع خلف هذه المقالة.

قد لا يكون مقصودًا هنا ذِكر دمشق، بوصفها تنفي الجريمة عن سلطة معروفة بارتكابها الجريمة المنظمة، وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، لكن ثمة حاسة لغوية ضعيفة هنا أو معدومة يغيب مع غيابها الحس النقدي السليم الذي لا بد له أن يرافق اللغة دومًا قولًا وكتابةً؛ ذلك أن على الكلمة هنا ألا تنفصل عن معناها، لأن ثمة صلة روحية بين الدال والمدلول، بين المعنى والمبنى، ينعكس الواحد في الآخر، ويتغذى منه.

ربما اعتقد مَن صاغ ذلك العنوان أنه، إذ يكتب “دمشق تنفي….”، يكون بذلك صاحب خطاب رسمي وجدي رصين! شأنه في ذلك شأن صاحب كل خطابٍ مشابِه، لا يسعفه حسه اللغوي والنقدي من أجل الفصل بين المدائن والبلاد، وبين الأشخاص والسلطات التي تحكمها أو تسيطر عليها بالقوة. إنه خطاب لا يختلف عن خطاب “سورية الأسد”، ويفرض “صدقًا” ما على كلمة ما أو مفهومٍ ما، فرْضًا. ينسحب هذا الكلام على الكثير من التعبيرات التي تقسر اللغة، وترغمها على ألا تشبه معناها، كأن يُقال عن وفد خاص بالنظام: “زار وفد رفيع المستوى هذه الدولة أو تلك”، في حين يكون هذا الوفد هو وفد من مجرمين وقتلة، فأين الحاسة اللغوية النقدية السليمة هنا، حين يُوصَف بـ “المستوى الرفيع” ما هو وضيع وشنيع؟! وأين الحاسة اللغوية النقدية السليمة، حين يجري الحديث عن مسؤولٍ ما، عن زعزعةِ الأمن وتخريبه بوصفه “مسؤولًا أمنيا”، أو حين يجري الحديث عن ديكتاتور ميت، اغتصبَ السلطة وحكم البلاد وطوقها بالحديد والنار، بوصفه “الرئيس الراحل”، أو حين يُقال عن امرأة نائبة في برلمان ما: “نائب”، كأن المرأة لا يمكن أن تمثل شريحة من الناس في برلمان إلا بوصفها رجلًا!

****

مرّ معي في كتابٍ، يتحدث عن تاريخ أوروبا، في أكثر من موقع عبارة “الحرب العظمى الأولى”، والمقصود بها الحرب العالمية الأولى! في الحقيقة، يمكن لعملٍ أدبي خالد أن يكون عظيمًا، ويمكن لمدينة أن تكون عظيمة، ويمكن لثورة حرية وكرامة أن تكون عظيمة… إلخ، لكن أين “العظَمة” في حربٍ قذرة! أين الحاسة اللغوية أو الحس النقدي هنا؟! يمكن الحديث هنا عن واحدة مما تمخضت عنها تلك الحرب، أي “عصبة الأمم المتحدة”، لنلقي الضوء على مفردات من قبيل: “عصبة، عصابة، عُصاب”. تلك “العصبة” لم تستطع منْعَ اندلاع حربٍ عالمية ثانية، بل شكلت هزيمة كبرى للإنسانية والأخلاق. حربٌ عالمية ثانية تمخضت عنها “أممٌ متحدة” و “مجلسُ أمن”، لم يستطيعا بدورهما منْعَ كوارث بشرية في الأصقاع. وانطلاقًا من تسمية “مجلس الأمن”، نسأل: أين الأمن والأمان في عالمنا اليوم، خصوصًا مع استمرار المجزرة في سورية؟!

يحدث كثيرًا أن نقلب صفحات معفرة بغبار كلمات جرى تشويه مدلولاتها، فنغلقُها منطفئي الملامح، كأن يُوصف -أيضًا ومثلًا- ما يجري في غوطة دمشق الشرقية مؤخرًا بـ “أسوأ أنواع العنف“، لا بـ “الإبادة الجماعية الحقيقية“! أما ما يُكرر على نحو آلي ومقولَب، كمِثل “أصدقاء الشعب السوري”، أو “استخدام السلاح الكيميائي، خط أحمر” وغير ذلك، فلا يندرج تحت الحاسة اللغوية النقدية الضعيفة أو المعدومة، إنما هو كذب فاضح وخداع وتضليل لغوي يقنع الكلمات.

لعل المثال الأوضح هنا هو قول الرئيس الفرنسي ماكرون: “الأسد عدو الشعب السوري، وليس عدوا لفرنسا”. ما يعني زعزعة “الصداقة” المزعومة، من أساسها مع هذا الشعب، عبر التخلي عنه ليواجه وحده مصيرًا مفجِعًا وأعمى!

****

الحاسة السادسة هي قدرة خفية وعالية، مثلما هي فَهمٌ أبعد. إنها حدْس يتجاوز المحسوس. هكذا، فإن الحاسة اللغوية النقدية السادسة مطلوبة، قولًا وكتابةً، وفي أعلى حد من الرهافة، خصوصًا في ما يتصل باللغة الأم؛ إذ تشويه الابن للغته الأم يعني تشويه الوجوه في مرآةِ لغةٍ كهذه. إن زج اللغة في معمعة التشوه، يحيلها لغة منكوبة ومكلومة وثكلى.

حدثتني امرأة من دير الزور، عن واقعة قالت لي إنها شاعت في أرجاء المحافظة؛ حيث سمعَ أحد عناصر تنظيم (داعش) الإرهابي أُمًّا تقول لابنها “والله لإدْبحَكْ”، فقال لها: “أتحلفين بالله كذبًا؟ الآن يجب أن تنفذي ما قلتِه”؛ فراحت ترجوه أن يعفو عنها وعن ابنها، وتقول له إنها لم تكن لتقصد. وبعد صد ورد عفا العنصر عنها، وانصرف. بصرف النظر عن صحة أو عدم صحة تلك الواقعة، نحن هنا في صدد إرهابٍ لغوي، استدعى إرهابًا واقعيًا.

ربما ينبغي أن نتكلم ونكتب عند حافة المعرفة. عند الحافة القصوى التي تفصل ما بين الجهل والمعرفة. وأن نردم الجهل؛ يعني في معنى ما، أن نؤجل القول والكتابة إلى الغد، أو أن نجعلهما –ربما- مستحيلَين، لنبدأ مجددًا، بعدما يكون كل شيء قد قيل أو كُتِب. للغة قدرة التحليل والتدمير، بقدر قدرتها على التكوين ولعب دور سري في القلب والعقل.

إن القول والكتابة ليسا موضوعييْن ولا حيادييْن بالمطلق، ومهما حاول المتكلم أو الكاتب أن يكون موضوعيًا وحياديًا، حيال كلامه أو نَصه، لا بد أن تحمل كلماته روحَه في هذا المعنى أو ذاك. لذا فإن اختيار مفردات معينة لتوصيف أو تفسير هذه الواقعة أو تلك، أو للتعبير عن الأحداث، لا بد أن يتأثر بروح القائل أو الكاتب وبفكره ودرجة حسه النقدي واللغوي والشعري.

****

للغة، بوصفها كائنًا حيًا، قدرة عظيمة على الإنتاج، كونها معبرة ومشيرة. إنها “فعل” إرادة وحرية. غير أن الإنتاج لا يعني التشويه، ولا مسخ المعنى المعبر عنه، لتمسي اللغة جلمودًا، أو كالحة وعديمة المعنى.

كنتُ مع امرأة ألمانية موظفة في مكتب، وكانت تحدثني عن امرأة عاملة في المجال الاجتماعي، سوف تساعدني بخصوص حياتي الجديدة في ألمانيا، وبعد أن قرأتْ في عيني قلقًا؛ استلّتْ قاموسًا ألمانيًا-عربيًا، كنتُ أحمله في يدي، وراحت تقلب في صفحاته. أشارتْ إلى أربع كلمات، وقالت لي إنه لا ضير في الانتباه إليها، من أجل بناء تواصلٍ جيد مع المرأة العاملة في الميدان الاجتماعي: (علاقة- شخصي- ثقة- كيمياء). أعتقد أنه ما كان لتلك المرأة أن تستعمل هذا الأسلوب الرشيق في العمل، لولا معرفتها العميقة ربما، بقدرة الكلمات وعبقها وإلهام اللغة وإنارتها.


علا شيب الدين


المصدر
جيرون