التحالف الطائفي والديموغرافيا السورية التي لا تُنتج ثورة
24 آذار (مارس)، 2018
حتى وقت قريب، كان القول بأن السلطة الفاشية وحلفاءها الطائفيين، بزعامة ملالي طهران، يسعون لإحداث تغيير ديموغرافي واسع على البنية السكانية الاجتماعية في أرجاء سورية، قولًا يرى فيه البعض مقاربة خاطئة، ومغرضة أيضًا، لما تقوم به أجهزة السلطة الفاشية وحلفائها، في عدد من المدن والبلدات السورية. غير أن المسار الواقعي الملموس والواضح للأحداث، خلال المواجهات بين الثورة والحلف المضاد للشعب السوري، لم يترك مجالًا للشك في أن ما تقوم به سلطة الطغيان، والأدوات الفاشية الطائفية التي هبّت لنجدتها، هو تغيير ديموغرافي جذري وشامل، يطال المجتمع السوري في أوسع رقعة جغرافية من البلاد.
ظهرت العلامات الأولى للاجتثاث الطائفي الفاشي في مدينة حمص، ثم في مدينة القصير، وتلاهما في مدن أخرى، في سهل الزبداني ووادي بردى وداريّا وعدد من أحياء دمشق، كبرزة والقابون، لكن اجتياح حلب وترحيل سكانها، والآن استهداف الغوطة والعمل على تهجير أبنائها، أظهرا الصورة الواضحة، لما ترسمه سلطة الطاغية الطائفية الفاشية من مستقبل لسورية، يمكّنها من القبض على البلاد إلى أجل غير مسمى، وإن كان شعار “الأبد”، منذ عهد الدكتاتور الأب الذي ورثه الابن، يعبّر عما يجول في تفكير وتطلعات العصابة الحاكمة، بما يدل عليه، كنموذج للاستبداد لم يشهد التاريخ العالمي الحديث مثيلًا له، إلا في كوريا الشمالية التي تحكمها سلالة كيم إيل سونغ، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ففي عهد الوريث أنتج التشبث بالسلطة فظائع دامية ومدمرة على سورية وشعبها، وغير مسبوقة في تاريخ الثورات والحروب.
في زمن الثورة، أنتجت المافيا المستبدة مصطلحات، منها “البيئة الحاضنة للإرهاب – الثورة”، وعلى خلفيتها، يمكن مقاربة الهدف البعيد للاجتياح الديموغرافي الذي يتطاول يومًا بعد يوم. وإذا كان البعض قد قارب هذا الأمر على خلفية إحلال طائفة – طوائف، مكان طائفة أخرى، جرى التعارف عليها “بالأكثرية”، وهي مقاربة أولية صحيحة وملموسة، سوى أن المغزى الأعمق والأخطر لهذا التهجير والطرد ثم الجلب والإحلال، في أن ما يُراود مخططي العصابة وحلفها الفاشي هو تشكيل وصناعة بيئةٍ لا تنتج ثورة على سلطة الاستبداد. فليس حبًا بالشيعة الفرس والأفغان والباكستانيين واللبنانيين والعراقيين وسواهم، يتم تفريغ المدن السورية من سكانها الأصليين، ثم تنظيم عمليات الاستيطان الطائفي ليحلّ مكانهم؛ فمحاولة إبقاء سلطة بشار، والتأسيس لضمانة استمرارها، كأداة بيد المشروع الفارسي العنصري المدمر، هي الهدف الذي استدعى العمل الفاشي للنيل من “البيئة الحاضنة للثورة”، ليس بقمعها وإخضاعها فقط، إنما بإلغاء وجودها، كمصدر دائم للتمرد وتوليد الثورات على الدكتاتورية والاستبداد. أي عبر هذا التغيير الديموغرافي التدميري، ينشأ تلاحم “عضوي” بين الاستبداد الفاشي وقاعدته الاجتماعية السكانية الاستيطانية.
لقد أسس حافظ أسد دعامة استمرار دكتاتوريته على معادلة صعبة، لكنه نجح بها إلى أبعد الحدود، معادلة الطائفة – السلطة، وأرجو أن لا يتذمر أحد، ويذهب إلى الاعتقاد أن كلامي أعلاه يمس كل فرد من طائفة الدكتاتور، فأعرف ما يعرفه الجميع من أن شرائح واسعة لم تنل مكتسبات من انتمائها إلى الطائفة العلوية، وأن المئات من مناضليها قمعهم حافظ أسد بشراسة ووحشية، لكنّ حقيقة أن كل مفاصل السيطرة على أدوات العنف والإدارات الحساسة، ومصادر الثروة والمال، كانت من نصيب رجالات ينتمون إلى الطائفة التي أراد لها حافظ أسد أن تكون قوته ومرتكزه للدفاع عن بقائه، حقيقة لا مجال للتنكر لها. ولم تبدأ تلك العملية، كما يعتقد البعض، بعد جريمته الوحشية ضد أهل حماة في الثمانينيات، إنما تسارعت يومها وبتخطيط مسبق. فالمحاولة هذه بدأت مبكرًا، على الأقل، بعد انقضاضه على السلطة عام 1970. أليست سهولة انتقال السلطة بعد موته إلى وريثه بشار، ثم التجديد والتجديد للدكتاتور الابن، من ثمرات البناء المحكم لسلطة العصابة الطائفية المافيوية المستبدة التي بنى جسدها المتوحش، وضخ فيها الروح الدكتاتور الأب؟ ومع انفجار ثورة الحرية العفوية المدنية السلمية، كانت الأدوات التي أعدّها الأب جاهزة للقيام بارتكاباتها الوحشية، دفاعًا عن مصالحها التي هي مصالح الدكتاتور الصغير الوريث “القائد” والعائلة الحاكمة.
ولعل الرعب الذي دبّ في نفوس جنرالات الجيش والأمن، من مشهد الشعب وهو يحطم تماثيل الدكتاتور “الرمز”، في أكثر المدن، ثم في انهيار قوات القمع والجريمة وانكفائها أمام الثورة الشعبية العارمة، وبروز علامات واضحة لاقتراب أجلها بالسقوط، لولا التدخل الإيراني وأذنابه الطائفيين، ثم التدخل الروسي الوحشي، جعل تفكير المخططين من أفراد المافيا، بإشراف وتوجيه من طهران، يتجه إلى محاولة التخلص من “البيئة الحاضنة للثورة”، بالقضاء عليها في عملية دمج وحشي بين القتل والسحق والترحيل والتهجير. فالخوف على مستقبل الاستبداد أوجد التفكيرَ في القضاء على مصدر التمرد والثورة وإلغائه، جسديًا ووجوديًا وديموغرافيًا، ليصبح الانسجام والتلاحم بين السلطة الفاشية الطائفية وبين البشر المحكومين، وكأنه الشرط الحتمي للحفاظ على البقاء، بقاء يرتكز على (المستوطنين) الذين حلوا محل السكان الذين طردوا ورحلوا، بعد قتل مئات الألوف منهم، وأولئك الذين أقنعتهم العصابة الحاكمة بأنها إن ذهبت ذهبوا، وتعرضوا للمذابح والانتقام، وأعني (أبناء الطائفة العلوية).
وعلى ذلك؛ يمكنني القول: إن فكرة سورية المتجانسة تشكّل الخلفية لعمليات الاقتلاع والترحيل والتهجير أي “الديموغرافيا” الآمنة. التي تحمي بقاء السلطة المافيوية، ليس بقوتها العسكرية والأمنية فحسب، بل أيضًا بالتكوين البشري الذي تعتمد عليه. وهي فكرة أيديولوجية عنصرية تؤسس للمزيد من المذابح والدمار. مذابح تطال البيئة التي يصنعها الغزاة الإيرانيون وأدواتهم، بتفاهم وانسجام مع سلطة المافيا الطائفية التي يقودها بشار، فكيف سيكون التجانس بين فئات تنتمي إلى هويات قومية ومذهبية مختلفة، وجاءت إلى سورية كميليشيات مسلحة، طمعًا بمكاسب مادية، خلف ستار طائفي شيعي نسجته أيديولوجيا “حلم الإمبراطورية الفارسية”، للثأر من التاريخ.
أختم بالتأكيد أن تطلعات الفاشية المافيوية الحاكمة وحليفها الإيراني شيء، والواقع ومساراته المحتملة والمتوقعة شيء آخر، وإن بدت لبعض الوقت علامات يبني البعض عليها استنتاجات متسرعة، حول نجاح المشروع المعادي لسورية وللشعب السوري، ولن تفضي عمليات الاقتلاع السكاني الجارية إلى القضاء على “البيئة الحاضنة”، التي يقصد بها الأكثرية “السنية”. والتجانس الموهوم بين القطعان الفاشية الطائفية، ذات الهويات المتناقضة، ستلتهم بعضها البعض، وستصطدم حتى بالبيئة الاجتماعية التي يدعي النظام تمثيله لها، ودفاعه عن مصالحها. ثم إن الشعب السوري بكافة تلاوينه هو بيئة حاضنة لمواجهة الاستبداد -وإن بأشكال مختلفة- حتى أولئك الذين يدعي الطاغية أنه الممثل الأبدي لمصالحهم والقادر على حمايتهم.
مصطفى الولي
[sociallocker]
جيرون