ديموقراطية” البصوقية”



– صباح الخير حبيبي!

– صباح الخير

– كيف أنتم اليوم؟

– ماشي الحال

– إن شاء الله أحسن؟

– تقريبًا!

– ما رأيكم أن نذهب معًا إلى الطاحون؟

– طاحون؟ لا لا.. صعب!

– كلما سألتكم تقولون صعب! متى سيكون سهلاً حبيبي!

– اليوم ليس على بالي.

–  لا بدّ أن نطحنها بأسرع وقت حبيبي! على كل حال ما رأيكم أن تتروّقوا الآن، على أن نجد حلاً فيما بعد؟

– وما هي ترويقة اليوم؟

– اليوم جهّزنا لكم فطورًا خاصًّا، يعني خلطة مناسبة من شعير وذرة وقليل من التبن الناعم سهل الهضم، مع رشّة بهارات ومنكهات مستوردة خصيصًا للحمير! طيّبة كتير كتير.. ما رأيكم؟

– حسنًا… بو عرقوب جارنا ماذا قال عنها؟

– أوووووه!  أبو عرقوب جنّ فيها، وقال إنها من أطيب ما يكون!

– ماشي الحال.. هات سحّارة منها إذن، ضعها في المعلف حتى نجرّبها!

– على راسي وعيني، تكرم حبيبي بو عنطوز، بعد خمس دقائق تكون جاهزة في المعلف، إن شاء الله تعالى.

– ممكن معها كم علبة بيرة شعير بدون كحول؟

– ممكن ولوووووو.. أقلّ منها؟ ليش نحنا كم “بوعنطوز” عنّدنا؟؟

– شكرًا شكرًا.

–  والآن “بوعنطوز” الحبيب هل تأمروننا بشي؟

– لا.. مع السلامة!

– لا تنسَ موضوع الطحنة الله يرضى عليك! فكّر فيها ضروري.. ولا يهمّك أي همّ، رجلي على رجلك ذهابًا وإيابًا!

– ماشي الحال، ماشي الحال، ستفكّر فيها إن شاء الله

– تصبحون على خير حبيبي.

– وأنتم من أهله، مع السلامة.

– الله يسلمك حبيبي ويقوّي عضلات ظهرك.

خرج “بو عبدو” من عند “بو عنطوز” من الزريبة! وما إنْ ابتعد بضع خطوات حتى جعل ينفّخ، ويلولح برأسه ذات اليمين ثم ذات الشمال، وهو يتمتم لاعنًا الساعة التي نزلت بها هذه اللعنة على نافوخ البلدة:

(العمى شو هاد؟ والله ما كان ناقصنا غير الديموقراطية والحرية و”أكل الخرا”!!  حتى “بوعنطوز” ما عاد نقدر عليه:

بتروح ع الطاحون حبيبي؟ لا ليس على بالي! ممكن نتلكّش سوا ع الدوّارة؟ لا تلكّش لحالك! طيب ممكن ع الكسّارة؟ ملّيت من الكسارة والدوّارة.. طيب شو رأيكم تعنظزوا شوي، يعني تعملوا رياضة عسى يتحسن مزاجكم؟ شو رياضة ما رياضة؟! طيب ما رأيكم أركب عليكم مشوارًا في أحضان الطبيعة ونشمّ النسيم العليل؟ أعوذ بالله! جنّيت يعني؟ كيف تركب علينا يا زلمي؟ ظهري لم يعد يحتمل الركوب من زمان…).

في الزريبة المجاورة لزريبة “بو عبدو”، كان منظر جاره “بو حمود” يكاد يطيّر عصافير العقل من أعشاشها، فبدوره هو الآخر كان يجري حوارًا ديموقراطيًا مع حبيبه “بوعرقوب”! لأكثر من ساعتين، وهما يتناقشان في مسألة “جواز أو عدم جواز الركوب على ظهر المحبوب” في ظلّ تبنّي النهج الديموقراطي الحديث! “بوعرقوب” يصرّ على أن “بو حمود” طوال عمره رجل نظري! لذا عليه أن يجرّب أن يكون مركوبًا، ولو ساعة واحدة في اليوم، ليتأكّد من حجم الظلم الذي طالما لحق بسلالة عرقوب الأول! ولم تبرد حرارة النقاش بينهما حتى جعل “بوعرقوب” ينطّ على ظهر “بو حمود”! و”بو حمود” يجعر بأعلى صوته ليس من ثقل “بوعرقوب” فقط، بل من رائحة جلده وقساوة أظلافه، بينما الراكب لا يكفّ ينكز المركوب وهو يقول: طوّل بالك أخي “بو حمّود” طول بالك! حتى تصدّق كيف كانت حال سلالة “سيدنا عرقوب” قبل فجر الديموقراطية والحريّة!!

… ولم يكن ثمة حال أحسن من حال، في زرائب “البصوقية” كلها.

في الاجتماع الدوري لتقييم التجربة الديموقراطية في “بلدة البصوقية”، كان رئيس الوفد المتحمّس للحقوق العمالية والتجربة النضالية، لا يكاد يستطيع يخفي فرحته وسعادته، رغم أنه طوال الوقت يكشّر على أنه يفكّر، وهو يرى بأم عينيه ويسمع بكلتا أذنيه الجماهير التي علكتها التجربة ومضغتها، مثلما هي علكت التجربة ومضغتها، دون أن تستطيع بلعها! وها هي تريد أن تبصقها لتتخلّص من شرّها المستطير..

يتجادلون، يتناقشون، يتصارخون، ويتقاذفون التهم فيمن كان السبب! وأصوات ضجيجهم وعريرهم تندفع خارجة من أفواه الشبابيك الضيّقة، كأنها كقطعان من ضباب.. هذه التجربة قلبت رؤوسهم و”شقلبت” حياتهم، وكادت تقلب زمانهم فوق مكانهم، ومكانهم فوق زمانهم.. ها هم تمامًا الآن، على يقين خالٍ من الشكّ أنّ بضاعات الأمم التي يتمّ استيرادها بين حين وحين، وكيفما اتّفق، إما أنها مغشوشة أو مدسوسة أو منتهية الصلاحية! وها هم صغيرهم قبل كبيرهم يحلمون بالعودة السريعة إلى ما كانوا عليه قبل مؤامرة الديموقراطية، وكلهم -بقضّهم وقضيضهم- لم يعودوا يصدقون متى سيعودون ينعمون بنصف ما كانوا فيه يرفلون! فما رأوه وعاشوه وعانوه لا تكاد تتحمله الجمال الراغيات.

بلدة “البصوقية” تزمزم مثل خلية زنابير برّيّة، كلما كان ثمة اجتماع لتقييم واقع الحال! تتخبّط في موحلة الديموقراطية، وتتقلّب على جمر الحرية، وتتشقلب مع نظريتيّ المساواة والعدالة الاجتماعية! ورغم قصر عمر هذه التجربة، لم يتبق أحد من أهالي وسكان البصوقية إلا عضعض أصابع يديه ندمًا على ذاك الجنون، يوم كان يصرخ ملء حنكيه كالمصطول: بدنا ديموقراطية وبدنا حرية وبدنا شعيرية! فقد كان ذلك حفظًا على الغايب دون فهم! ومن دون ممارسة عملية، وها هو يتبيّن لسكان “البصوقية” أن أحضان الخيال شيء، وأحضان الواقع شيء، وأحضان الوطن شيء، وأحضان الضياع شيء آخر تمامًا!

مدير الجلسة يقلّب ناظريه، ويفرّك براحتي كفّيه، ويرخي شفتيه، ويتّكئ على أمان كان إلى حين قريب أكثر من مستحيل. الآن اطمأنّ قلبه وتفرّجت أساريره وتبلّج الأمل في عينيه، على أنقاض زمن كاد يسقط معه في التيه والشكّ اللعين… ها هم أنفسهم الذين كانوا يطعنون الهواء بقبضات أياديهم ووجوهُهم إلى أمام، يعودون هذه المرة يطعنون الهواء ووجوهُهم إلى خلف! مطالبين بالعود السريع، لأن العود أحمد وأسعد وياسين!!

مدير الجلسة يهزهز برأسه وهو يتأمّلهم يشمّرون عن سواعدهم إلى المرفقين، مستعجلين ملهوفين ليبصموا بأطراف أصابع اليدين وكفوف الراحتين، أنهم كانوا مخدوعين ضالّين جاهلين، متعهّدين أن يبقوا راضين شاكرين حامدين، إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، وربما إلى ما بعد يوم القيامة والدين.


عبد الحميد يونس


المصدر
جيرون