الفساد المُدمِّر والدولة الديكتاتورية



لا شك أن الحديث التقليدي عن الفساد، خلال الأزمات العاصفة الدامية، التي تجتاح أكثر من بلد عربي، وفي مقدمتها سورية، وتهدد البلدان العربية الأخرى بخطر داهم، سيبدو حديثًا تجاوزه الزمن، وهذا منطقي إلى حد كبير، لكن هذه المقالة لا تبحث في الفساد نقديًا أو تحليليًا، وهي لا تتخذه موضوعًا على أي من مستوياته: السياسي أو الإداري أو الاجتماعي أو الأخلاقي منها وما شابه، فهي تتناول الفساد بصفته -وبأبعاده وأشكاله المختلفة- البيئة الخصبة التي أنتجت هذا الوضع الكارثي الذي وصلنا إليه عربيًا بشكل عام، وفي سورية بشكل خاص، وهي تربط الفساد بشكل رئيس بنموذج الدولة (أو شبه الدولة) القائم، وتحملها مسؤوليته الأساسية، وهي تقدم مقارنة وجيزة بين علاقة كل من الدولة الديكتاتورية والديمقراطية بالفساد، لتصل إلى خلاصة مفادها أن النموذج الديكتاتوري هو نموذج فاسد ومُفسد بطبيعته، وأن الدولة الديمقراطية الحقيقية هي وحدها القادرة على مواجهة الفساد مواجهة حقيقة وإنقاذ المجتمع من شروره الفاتكة.

الفساد هو آفة كبرى، سواء أصابَ الفرد أم المجتمع، وبقدر ما ينتشر الفساد، يتردى الفاسد في كل ميادين حياته، فلا نجاح ولا إبداع ولا إنجاز بوجود هذا الفساد، ونحن -العرب عمومًا والسوريين خصوصًا- عانينا، وما زلنا نعاني، أشد أشكال الفساد الكمية والنوعية، وكل الأزمات والكوارث التي عشناها، وما زلنا نعيشها، أحد أسبابها الأساسية، بل أكبر أسبابها هو الفساد!

ولكن عن أي فساد بالضبط يتم الحديث؟

هل هو الفساد بالمعنى الرسمي الذي يعني فساد أجهزة الدولة، وفشلها في القيام بواجباتها تجاه المواطن والمجتمع ونفسها كدولة، بل تحولها إلى لعب دور المفسد في هذا المجال؟ أم هو الفساد المجتمعي، الذي يتمثل بفساد العلاقات التعاملية المختلفة بين أبناء المجتمع، وتردي الثقافة والأخلاق، وتفشي الجريمة والسلوكيات الشاذة والمؤذية؟ أم هو فساد الفرد، الذي يتجلى في انحطاط قيمه وتصرفاته ومواقفه؟

واقعيًا، لا يمكن فصل أي جانب من جوانب الفساد تلك عن الجوانب الأخرى فيه، فهي مترابطة ومتداخلة، وكل منها يؤثر ويتأثر بقوة بسواه، ويجب التعامل مع الفساد ككل متكامل غير قابل للتجزئة! لكن مَن المسؤول عن استشراء الفساد على كافة هذه الصعد؟ أهو المواطن أم المجتمع أم الدولة؟!

قد يكون من المنطقي والمنصف أن نقول إن كلًا من المواطن والمجتمع والدولة يتحمل نصيبه من المسؤولية عن هذا الفساد! ولكن هذا الكلام النظري لا يعني التساوي في تحمل مسؤولية الفساد على أرض الواقع، وهذه المسؤولية تتضمن المسؤولية عن نشوء الفساد وعن مكافحته! فواقعيًا يتحمل المسؤولية بالمعنى الجزائي من يتحملها بالمعنى الوظيفي، إذ لا يمكن محاسبة طبيب على خطأ مهندس! كما يتحملها صاحب الصلاحية، فمن لا صلاحية له لا ذنب له، ولا يمكن مساءلة مهندس أو طبيب عن خطأ مهندس أو طبيب آخر وهكذا دواليك!

وبهذه الآلية؛ يمكن الحكم على الأمور عند مسائلة كل من المواطن والمجتمع والدولة في قضية الفساد، ويجب تحديد من هو صاحب الواجب، ومن هو صاحب الصلاحية وتحميله المسؤولية، وفقًا لواجبه وعلى قدر صلاحيته. ومن الضروري هنا التنبيه إلى أن من يعرقل أو يمنع الآخرين من تحقيق مسؤولياتهم، أو يأخذها منهم ويضيفها إلى مسؤولياته، يصبح هو حكمًا المسؤول الوحيد عن كل تلك المسؤوليات!

ولننظر الآن في دور ومسؤولية كل من الجهات الآنفة الذكر عن الفساد!

واقعيًا، هذه المسألة لا يمكن النظر فيها بشكل يتم فيه التعامل بشكل منفصل مع كل من المواطن والمجتمع والدولة، لأنه من غير الممكن الفصل بين كل من هذه الأطراف، فلا مواطن بدون مجتمع ولا هذا ذاك بدون دولة!

فالدولة، بمعناها الحديث، هي الإدارة المنظمة لشؤون المجتمع والمعنية باتخاذ القرارات وتنفيذها، وهي السلطة القادرة على ذلك.

المجتمع هو المحتوى البشري للدولة، ولكنه لا يتأطر في حدود الدولة، وهو أشمل منها، وعلاقته بها هي علاقة الكل بالجزء، فالمجتمع هو البنية الإنسانية الشاملة التي يجتمع فيها الناس اجتماعًا منظمًا إنسانيًا، ليتمكنوا من إنتاج وتطوير وجودهم وحياتهم الإنسانيين.

والمواطن هو فرد بالنسبة إلى المجتمع بالمعنى الجماعوي للمجتمع، وهو مواطن بالمعنى السياسي والحقوقي بالنسبة للدولة، وعندما لا يكون ثمة دولة أو مجتمع، كأن يعيش الفرد معتكفًا أو منعزلًا كليًا -وهذا أمر غير ممكن واقعيًا- فعندئذ يسقط مفهوم المواطنة ومفهوم المسؤولية، وبالنسبة إلى الفرد الافتراضي الكلي الانعزال، تنحصر المسؤولية إلى حدودها الدنيا عن الذات وأمام الذات، ولكن لا يسقط معيارها الإنساني في علاقة هذا الفرد -المنعزل- في علاقته مع ذاته أو محيطه الحيوي أو البيئي، وهذا المعيار الإنساني يعيدنا من جديد إلى المجتمع، بصفته المصنع الإنساني لكل المعايير والقيم، والمصنع الفعلي لإنتاج الإنسان كإنسان من الناحية الاجتماعية؛ فالفرد الذي ينشأ في الغابات والكهوف أو يعيش بين الحيوانات هو إنسان فقط بالمعنى البيولوجي!

على ذلك؛ يمكننا أن نصل إلى نتيجة أن الفرد وهو الخلية الأساسية في كل من المجتمع والدولة، لا يمكنه أن يكون إنسانًا حقيقيًا إلا في المجتمع، الذي يعتبر المبنى الإنساني لتحقيق إنسانية الإنسان تكوينيًا ومعاشيًا، والدولة هي الواجهة الإدارية والقانونية لهذا المبنى! بالطبع، كل فرد هو نتاج مجتمعه، وكذلك كل دولة، ولكن الدولة تعيد إنتاج كل من المجتمع والفرد، وهذا أهم وأخطر ما تفعله الدولة!

تاريخيًا، يمكن تصنيف الدول إلى صنفين هما: الدولة السلطانية (وهذه فعليًا شبه دولة)، والدولة الحديثة، التي يمكن أيضًا تصنيفها في صنفين هما: الدولة التوتاليتارية (أو الشمولية)، والدولة الديمقراطية، وهي الشكل الأحدث للدولة!

الدولة السلطانية هي شكل من أشكال السيطرة، السيطرة بالقوة على الأفراد والتجمعات البشرية، وفيها تغيب حالة المواطنة، فهناك الفرد الرعية الخادم لمولاه السلطان ومن يمثله أو ينوب عنه، ويضرب بهراوته أو سيفه حسبما تقتضي الظروف! وهذه الدولة لها واقعها التاريخي المناسب، والمجتمع في هذه المرحلة التاريخية يكون غائبًا، فهو لا يمتلك من الشكل الاجتماعي إلا تقاليده، ولكنه يفتقد تقريبًا إلى كل بناه العليا، ولا يمتلك إلا البنى التقليدية الدنيا التي تشكل تواترًا معاد القولبة للقطيعية واللاعقلانية البدائية، وبالتالي فنحن هنا بدقة أمام حالة “شبه مجتمع” وليس مجتمع بعد! وفي مثل هذه الظروف من العبث تحميل أي مسؤولية فعلية عن الفساد الحاصل للفرد أو شبه المجتمع، فهما مهيمن عليهما من قبل السلطان، والمهيمـِن يتحمل مسؤولية المهيمَن عليه وعنه، وفي مثل هذه الظروف تكون أفق حياة الرعايا محدودة، وما يمكن أن يتسببوا به من فساد أيضًا محدود، وأيًا كان هذا الفساد فهو مرتبط بظروف الحياة الفاسدة التي ينتجها النظام السلطاني، وهو هنا الفاسد الأكبر، وبالتالي يمكننا القول إن الفساد الأصغر الذي تنتجه الرعية، ما هو إلا انعكاس للفساد الأعظمي الذي ينتجه النظام السلطاني الفاسد بطبيعته!

أما في حالة الدولة الشمولية، وهي حقيقة دولة لا يمكنها إلا أن تكون دولة ديكتاتورية، فهذه الدولة تستولي على كل المسؤوليات، بدعوى أنها تتحمل كل الأعباء، وهي هنا أيضًا تهيمن على المجتمع، ومن نافل الكلام القول إنها تهيمن بذلك على الفرد، وبهذه الهيمنة تستلب كلا من الفرد والمجتمع وتشلّ قدرتيهما على الفعل! وهذه الدولة محكومة بالفساد، فهي تتمتع بسلطة مطلقة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، كما يعلم الجميع، فهنا لا رقيب ولا حسيب ولا ناقد ولا منافس، ولا صاحب رأي أو موقف آخر، وهلم جرّا.. ومعيار الاختيار يصبح ولائيًا لا كفائيًا؛ ما يقصي ويُهمش الكفاءات الحقيقية، ويغرق جهاز الدولة بالانتهازيين ويفسده، وعندئذ ستتحول هذه الدولة إلى منتِج للفساد، وتصبح بحد ذتها مُـفسَدة ومُـفسِدة ومَـفسَدة، وبدلًا من أن تعمل على تطوير المجتمع، وتجفيف منابع الفساد الموجودة فيه سلفًا؛ تتحول هي نفسها إلى أكبر منبع للفساد، وبما أنها تمتلك كل الصلاحيات والقدرات فهي تكون تلقائيًا قد حرمت المجتمع وأفراده من إمكانية مكافحة الفساد، الذي يقتضي العمل الجماعي المنظم المعزز بالقانون، فهذه الدولة لا تسمح بأي عمل جماعي منظم خارج إطارها، وأي مسعى جدي لمحاربة الفساد من قبل المجتمع ستحاربه هذه الدولة، لأنها سترى فيه تحديًا لشموليتها على صعيد التجمع والتنظيم، وتحديًا لفسادها في توجهه لمحاربة الفساد، وبذلك تسخّر هذه الدولة قوتها كدولة لخدمة الفساد إنتاجًا وحمايةً، فهل يبقى هنا أي مجال للكلام عن مسؤولية جدية للفرد والمجتمع، والديكتاتور هو صانع الفساد وحامي الفساد، ومحاربُ محاربِ الفساد؟!

الدولة الديمقراطية، وهي وحدها تستحق -فعليًا- تسمية الدولة، تكون أقل إنتاجًا للفساد وأكثر قدرة على محاربته بقدر ما تكون ديمقراطية فعليًا، فالديمقراطية، هي النظام الذي تتنافس فيه القوى السياسية المتعددة المختلفة، فتراقب بعضها بعضًا، وتستبدل بعضها البعض بشكل قانوني سلمي في تولي الحكم، وهي النظام الذي تتفرع فيه السلطة إلى ثلاث سلطات فاعلة، تستطيع مراقبة بعضها البعض، مما يمكن السلطتين القضائية والتشريعية فعليًا من مراقبة السلطة التنفيذية، وهي النظام الذي يعطي الإعلام استقلاليته وحريته ليقوم بدوره النقدي والرقابي والثقافي في المجتمع، كما أنها النظام الذي لا يكبل المجتمع ويشله، بل يعطيه الإمكانية والقدرة للعمل من خلال مؤسساته المختلفة على رقابة وضبط عمل وأداء الدولة نفسها، وهلم جرّا… وبهذا الشكل تحمي الديمقراطية الدولة نفسها من إفساد نفسها؛ ما يمكنها من القيام بدورها الحقيقي في إدارة مجتمعها لتحقيق متطلباته اللازمة لحياته اليومية ولتطويره نحو الأفضل، ومن بينها محاربة الفساد، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، هذه الدولة لا تثبط ولا تحبط حركة المجتمع والمواطن، وبديمقراطيتها وكفاءتها الإدارية، تفسح وتفعـل المجال أمام الفرد والمجتمع ليشاركاها بفاعلية عبر البنى المجتمعية الأخرى في خدمة وتطوير المجتمع ومكافحة ما فيه من فساد!

وهنا بالطبع تتقلص إلى الحدود الدنيا أبعاد الفساد، وحتى هذه الحدود تـُدرس بعناية لمعرفة أسبابها، وعمّا إذا كانت هذه الأسباب تعود إلى عوامل فردية محض، ويجب عندئذ إحالتها إلى ميادين علم النفس السلوكية والعلاجية، أو أن هذه الأسباب مرتبطة بقصور في أداء الدولة أو المجتمع، وهنا يجب تلافي مسببات هذا القصور وإصلاح هذا الأداء، وبالطبع هذا وذاك لا يستثنيان اتخاذ التدابير القصاصية اللازمة ضد الفاسدين والمفسدين.

سيبدو هذا الكلام واقعيًا وكأنه حديث عن دولة “مثالية”، والأصح هنا القول إنه حديث عن “دولة نموذجية”، فواقعيًا حتى أفضل الليبراليات الغربية الحالية ما تزال جد بعيدة هذا المستوى العالي من التطور، وهذا عائد إلى أسباب مختلفة، فعدا عن الرواسب الاجتماعية والثقافية والسلوكية التي تنتقل من مرحلة إلى مرحلة بشكل متواتر نتيجة الفشل في القضاء على مسبباتها الموروثة، هناك فساد جديد ينشأ مع مستجدات الحياة، والشكل الذي يتغير فيه المجتمع والدولة، وهذا مرتبط بقصور كل من الدولة والمجتمع، وهو قصور مرتبط جدليًا في ما بينهما، وهذا القصور مرتبط بمستوى تطور ثقافة واجتماعية المجتمع من ناحية، وطبيعة الدولة نفسها من ناحية أخرى، فواقعيًا الدولة الليبرالية الغربية هي ليست ديمقراطية مع أنها كذلك هيكليًا بدرجة كبيرة، لكن هذا لا يرتبط بهيكليتها، فالأهم من هذا في هذه الإشكالية هو وجود طرف آخر يجيّر تلك الهيكلية لصالحه أو يقيد حركتها بقوته، هذا الطرف هو رأس المال، رأس المال الذي يهيمن على الجانب الاقتصادي من المجتمع والمستقل عن جهاز الدولة، وهذه الرأس مال، الذي لا يسعى إلا لخدمة مصالح أربابه وهم فقط ثلة من كبار الرأسماليين، أصبح من القوة بحيث أنه صار المتحكم الأساس بكل من الدولة والمجتمع، والساعي فعليًا ليس فقط للهيمنة عليهما، بل لاستبدالهما بالسوق وإحلالها محلهما، وسوقنة كل الحياة الاجتماعية والإدارة السياسية، وهذا يعني أن في الدولة الغربية المعاصرة ديكتاتورًا يتحكم من وراء الكواليس، وهو رأس المال والسوق هي ديوانه وإيوانه الملكي، لكن المجتمع نفسه يتحمل بدوره أيضًا حصته الكبيرة من المسؤولية عما يفعله هذا الديكتاتور، لأنه راض بالرأسمالية وقانع بها ثقافيًا واجتماعيًا بحكم موروث تاريخي عميق الجذور.

وعلى أي حال، أيًا كانت الدولة الغربية وكانت مشاكلها ومستويات وأشكال وأسباب فسادها، فهي قد قطعت بالمقارنة مع أشباه دولنا شوطًا هائلًا في التقدم الاجتماعي، وجففت الكثير من منابع الفساد ومستنقعاته التي ما يزال تجفيفها بالنسبة إلينا حلمًا مغرقًا في الحلمية!

فما لدينا على الساحات العربية بلا استثناء، ومهما اختلفت صفات الحكام العرب، بين ملك وسلطان وأمير ورئيس، هو فعليًا خليط مشوه من الدولة السلطانية والدولة الشمولية، وهذا الخليط الأشوه يفاقم حدته مورثنا الاجتماعي والثقافي التاريخي البالي، الذي يتكامل مع تلك الديكتاتورية السلطانية فيعرقل –بل يشلّ– خطانا، ويجعل حركتنا الاجتماعية عاجزة عن تجاوز حالة شبه المجتمع الذي نحن فيه والتحول إلى مجتمع حقيقي!

هنا ثمة مسؤولية تاريخية، لم ينتجها في الزمن الحاضر شبه المجتمع ولا الفرد الرعية، الذي لم يرقَ بعد إلى درجة المواطن في حالة شبه المجتمع وشبه الدولة اللذين يتخبط في بلاياهما، ويتخبطان هما معه في ذاتيهما الفاقدتين لجل معايير المعاصرة والإنسان الحق، وفي المحصلة نحن اليوم نغرق حتى الحضيض في الفساد على مستويات ما يُسمى لدينا شكليًا بالدولة والمجتمع والمُواطن.

لكن الفساد الحاصل لدينا في المحصلة يعود جزء منه إلى مورثنا التاريخي، بكل ما يحتويه من أنماط فاسدة كالغيبية والطائفية والقبلية والذكورية، ويعود جزء منه إلى الإفساد الذي تقوم به الدولة السلطانية المفسدة، وهو فساد سياسي وقانوني وقضائي وإداري وتربوي واقتصادي وتنموي وتثقيفي وهلم جرّا، وينتج جزؤه الثالث من تفاعل ذاكي الفاسدين، فيكون فاسدًا أخلاقيًا وقيميًا وسلوكيا عند الأفراد تحت وطأة الظروف المتردية على كافة الصعد الناجمة عن تفاعل وتضافر ذاكي الفاسدين!

وإذا أردنا البحث عن المسؤول الجنائي عمّا وصلنا إليه من فساد كارثي، وما سبّبه من صراع دامي ودمار على كافة الصعد؛ فسنجده بالطبع في المسؤول الحكومي الشمولي بصفته المؤسسية كجهاز دولة، فهو فعليًا الوحيد الممتلك للسلطة والقدرة على الفعل، وهو المكلف بمهمة مكافحة الفساد الناتج وتجفيف منابع الفساد الممكن والعمل على تلبية حاجة الناس وتطوير المجتمع، ولكنه انتقل من موقع التطوير إلى موقع التأخير واستبدل فعل البناء بفعل التدمير، ففسد وأفسد سواه ومنع سواهما من أي عمل يكافح الفساد.

وهذا المسؤول الحكومي الفاسد، الممثل ببنيته وبأدواته في مفاصل الحكم والسلطة وفي المراتب العليا من الهرم الوظيفي، هو ثمرة دولته الفاسدة وممثلها، وخادمها ومستخدِمها، وهو يتحمل جلّ المسؤولية الفعلية، لأنه أولًا تخلى عن دوره في العمل البناء، وفي مكافحة الفساد الموجود بكل مواقعه وأشكاله ومسبباته، وثانيًا لأنه لم يكتف بذلك بل انقلب على مهمته وتحول إلى صانع للفساد، ليتسبب بدوه بإفساد المواطنين والبنى المجتمعية في المَواطن التي لم يطالهم فيها الفساد الموروث، وثالثًا لأنه لم يكتف بذلك بل تحول إلى حام للفساد ومانع لمحاربيه على مستوى المجتمع والمواطن بمنعه وقمعه للعمل المجتمعي والمواطني المستقل، وبمصادرته لكل آليات العمل المجتمعي والأهلي والسياسي والإعلامي، فعندما تـُمنع أو تـُضيّق مجالات تنظيمات المجتمع المدني والعمل السياسي والإعلام المستقل، ويلاحق بشراسة كل من يحاول النشاط في هذه المجالات، لن يبقى عندها لا حول ولا قوة لا للفرد ولا للمجتمع لنحمله مسؤولية مواجهة الفساد، وعندما يتحول صاحب السلطة إلى مفسد وحامي للفساد ومحارب لأعداء الفساد، فلا ذنب لمن يَـفسَـدون من عموم المواطنين وصغار الموظفين، فهم كالمرضى الذين يصيبهم الداء ويحمي الطبيب مرضهم بدلًا من التصدي له!

واليوم عربيًا وسوريًا تعلو أصوات كثيرة تتهم المجتمع والمواطن وتحمله جريرة الكارثة التي وصلنا إليها، فبرأي هؤلاء المواطن والمجتمع هما الفاسدان، وهما المريضان، وهما في المحصلة المجرمان، وهذه الأصوات تتغافل عمومًا عن نقد الدولة، فإن انتقدت، لا تنقد الدولة بصفتها دولة سلطانية ديكتاتورية فاسدة مفسدة بطبيعتها، بل يتوجه النقد إلى المسؤولين الحكوميين إما بصفتهم مواطنين يتحمل المجتمع الفاسد وزر فسادهم، أو بصفتهم أفرادًا يعود فسادهم إلى أسباب فردية محض، وكأن كل شبكات الفساد المتنامية في بنية الدولة والمتماهية معها، هي شيء لا علاقة للدولة بها، وهم هنا ليس لديهم الجواب، ولا حتى إرادة الجواب، ليجيبوا عن ماهية هذه الدولة العجائبية المنفصلة عن كل بناها الهيكلية وعن كل مسؤوليها!

هذه الأصوات الناشزة النابية هي أسوأ تعبير إما عن حالة فساد تام لعقل أو فساد تام لضمير، أو كليهما معا وهذا هو الأرجح!

وختامًا، في سعينا لإيجاد وتحقيق الحلّ الناجح، علينا أن نتذكر دومًا أن الفساد هو قوة متنامية، فإن لم يكافح تعاظم إلى الحدود الكارثية المدمرة، وهذا الفساد مرتبط بإرث المجتمع وبطبيعة الدولة الحاكمة، وبالتالي علينا عند البحث عن حلّ أن نضع نصب أعيينا مهمة القضاء على بؤر الفساد، وبالتالي علينا العمل على الخلاص من تخلّف مجتمعنا المرتبط برثاثة ثقافته الغيبية العنصرية الذكورية، والخلاص من طاغوت الدولة السلطانية الديكتاتورية المتلازمة مع تخلف المجتمع، وهذا يقتضي دمقرطة الدولة وعلمنة المجتمع، وهذان أمران متلازمان ومتبادلا التأثير ومتكاملان!

الحلّ الجذري هو في النظام العلماني الديمقراطي، ولكن علينا أيضًا ألا ننغرّ بالنموذج الغربي للدولة، وأن نكون حذرين وواعين كفاية لمخاطر قوى رأس المال وقدرتها حتى على استلاب الدولة نفسها وتفكيك المجتمع، وهذه المخاطر في بيئات متدنية النضج الاجتماعي كبيئتنا تصبح مخاطرها ومفاسدها أكبر عند التقائها مع مفاسد هذه البيئة، وبالتالي يجب ألا نقتدي بالنموذج الرأسمالي النيوليبرالي الغربي الذي يـُرأسمل الدولة ليتبعها للسوق ويضعها في خدمتها، وأن نبحث عن بديلنا الخاص، بديلنا الذي يقع على مسافة آمنة من مخاطر التدين والتعنصر والتسلطن والرأسمالة.


رسلان عامر


المصدر
جيرون