ما لا يريده السوريون من قبلُ ومن بعد!



آذار السوري 2011 ليس مجرد نقطة زمنية، فسورية قبله لا تشبه سورية بعده. تلك حقيقة لا يمكن إنكارها مصبوغة بالدم، الدم السوري الذي أهدره النظام الأسدي، دفاعًا عن باطله الذي بدأه عام 1970. لكن الزمن يتغير حتى دون وجود هذه النقطة الزمنية، وحتى لو كان عمر انتفاضة السوريين أقل بسنوات، في حال تحقيق الانتصار على النظام، أو في حال هزيمة السوريين التامة أمام النظام.

في ذلك العام، كانت ثورتا تونس ومصر مجرد “كلمة سر” أدت إلى تجاوز السوريين خوفهم، فاستأنفوا ثورتهم المكبوتة طوال أكثر من ثلاثة عقود، أو صنعوها وفق شروط بلدهم الذاتية، وسيرته مع القمع، فلا يمكن الربط بالتأكيد بين أسباب قيام الثورتين وأسباب قيام الثورة السورية، حتى لو كان حكام البلدان الثلاثة يحملون لقب ديكتاتور. أما سبب تعذر ذلك فيمكن استنتاجه من وقائع ما بعد 2011، في البلدان الثلاثة.

في تونس، التي لا نكاد نعرف عنها شيئًا في المشرق العربي، فاجأتنا الثورة، من دون أن يتفاجأ التونسيون بها بالضرورة، فهم أدرى بمجتمعهم. أما في مصر، ومعلوماتنا عنها أفضل قليلًا من معلوماتنا عن تونس، فقد بكرت الحركات الاجتماعية والسياسية بالتعبير عن رفضها للوضع القائم في الشارع والإعلام والسينما والأدب، وأشهر تلك التحركات حركة “كفاية”، وإضرابات مصانع الغزل والنسيج في “المحلة الكبرى”، عدا عن الفقر الأعمى، والعشوائيات التي قدمت لنا السينما المصرية الجانب البصري منها، دون التمعن بما يكفي في الأسباب التاريخية والسياسية والاقتصادية للظاهرة الكارثية.

في سورية، كان الخوف سيدَ الشارع السوري، بل سيد البيوت السورية نفسها وما بين الجدران، ولذلك كان يتوقع بشار الأسد في بداية عام 2011 أن “سورية غير”.

و”البو عزيزي السوري” كان أطفال درعا، الذين كتبوا ما كتبوا من دون وعي، في محاولة لتقليد ما شاهدوه على التلفزيون. وهذه مقاربة شكلية، عن الاندفاع العاطفي للتمرد، أو الانتفاضة، لولا أن النظام أكمل هذه الصورة، فخرج خوف السوريين إلى العلن ثورةً أكملتها المدن والقرى السورية البعيدة، بوعي لم يبلغ نهايته حتى اليوم، ولم يُنتج أدبيات تؤسس لما بعد الثورة، كما لم يرشح عن هذا الوعي قادة للفكر والرأي، يمكن الاسترشاد برؤيتهم للوصول إلى مستقبل سورية من دون الديكتاتور ونظامه.

وقد يكون وصف “فورة” منصفًا، لوصف ما جرى، خاصة حتى خريف 2013. لكن، وعطفًا على كل الثورات في التاريخ، هكذا تبدأ الأمور عادة، باختلاف التفاصيل والمدد الزمنية، لتنتصر إرادة القاعدة الجماهيرية للثورة، وينسحب الجبناء الذين حاولوا اختطاف الثورة، وصوروا أنفسهم قادة وطليعة للجماهير. حدث هذا في الثورة الفرنسية ذاتها، التي تعدُّ “مانيفستو” عام لكل ما تلاها من ثورات.

الموجة الثورية السورية الأولى انتهت منذ استعاد النظام السيطرة على حلب، من خلف روسيا وإيران وميليشيات “حزب الله”. وللتفصيل، يمكن ربط بدايات الثورة بحركة الناشطين غير المسيسين، للقول إن الثورة تراجعت كفعل منذ منتصف عام 2013، عندما اشتدت قبضة النظام على مناطق سيطرته التقليدية، فاعتقل من اعتقل من الشبان والشابات الناشطين، وقتل من قتل، ودفع من هاجر إلى الهرب بروحه.

ففي أعقاب الهجوم الكيمياوي الكبير الأول على الغوطة الشرقية، في 21 أغسطس/ آب من عام 2013، وتخاذل أوباما صاحب الخطوط الحمراء الخلبية، وترتيب صفقة مشبوهة لتسليم النظام ترسانته الكيمياوية؛ بدا أن أميركا غير معنية بالقانون الدولي، وغير مهتمة بحقوق الإنسان، حسب ما كانت تصرح في مناسبة وغير مناسبة. وفهِم النظام منذ ذلك التاريخ أن الأسلحة غير الكيمياوية مصرح باستخدامها، فكثف من صناعة واستخدام البراميل المتفجرة بدائية الصنع ذات التأثير المدمر الكبير.

استعادة هذه الوقائع البديهية محاولة للتأكيد أن السوريين لم يعرفوا منذ البداية كيفية تحقيق هدفهم؛ فوقعوا في شراك الدول التي شجعت تفرق السوريين إلى كتائب وفصائل وألوية، منها من رفعت شعارات إسلاموية، ومنها من رفعت شعارات وطنية سورية. وكان جمهور الثورة يصفق فقط لمن نجح في معركةٍ ما ضد النظام، ويلوم الفصائل التي لم تتوحد في مواجهة جيش النظام وحلفائه، إذا خسر فصيل ما معركة، بمعنى أن الفصائل، والمجلس الوطني السوري، والائتلاف، والناس، لم ينظروا إلى الثورة كمعركة استراتيجية، واقتصرت رؤيتهم لها على أنها معارك منعزلة في الجنوب أو الشمال، وتخيلوا أن سيطرة الفصائل المعارضة على حلب ستحسم معركة الثورة، وأن السيطرة على معظم الحدود الدولية، والمعابر مع الدول المجاورة، هي مرحلة متقدمة لعزل النظام في دمشق والقضاء عليه.

في اختصار أولي، كانت ثورتنا احتجاجًا ورفضًا للأمر الواقع، ليس أكثر، ولا تزال، لكنها لم تنجز حتى اللحظة رؤية لما بعد إسقاط النظام الأسدي، وهذا ما ينبغي أن يعمل عليه حاملو بذور الثورة، كي يبقى ما لا يريده السوريون سببًا حيًا ضد واقع النظام، من قبل ومن بعد، وضد واقع من حاولوا خدمة الثورة وفشلوا.


علي العائد


المصدر
جيرون