الأتراك والعرب: التاريخ لا يكتب بالخيال

د. باسم الطويسي

يبدو الانشغال العربي بالحالة التركية المعاصرة منقسما بين تيارين؛ أحدهما يُسبغ على النموذج التركي الراهن قدسية لا يقبل أن تمس من قريب أو بعيد، والتيار الآخر لا يفوت فرصة للنيل من النخبة الحاكمة في أنقرة. وقد بات التيار الثاني، خلال الأيام الأخيرة، متيقنا أن نجم رجب طيب أردوغان وإخوانه إلى زوال، وما على الإقليم إلا أن يفكر في مرحلة ما بعد “الأردوغانية”. تُرى، هل يمثل السلوك التركي تجاه العالم العربي وقضاياه، عقلانية سياسية واستراتيجية، تعكس مصالح قومية، بعيدا عن حساسيات التاريخ والدين والأيديولوجيا؟
الأسبوع الماضي، أعلنت مصادر ليبية أنها رصدت قيام السلطات التركية بتقديم السلاح لجماعات متشددة في ليبيا، من بينها “داعش”، في الوقت الذي انتشرت فيها الدعاية السياسية بأن تركيا باتت تحارب هذا التنظيم عبر حدودها. وقد راهن كثيرون على صدقية الانقلاب التركي وجديته، بعدما أعلنت أنقرة فتح مجالها الجوي وقواعدها العسكرية أمام الولايات المتحدة لتنفيذ عمليات جوية في عمق الأراضي السورية والعراقية لضرب المتطرفين. وإذا صدقت الأنباء الليبية الأخيرة، يكون ما يحدث على الجبهتين العراقية والسورية بحاجة إلى قراءة أخرى.
لا شك في أن الأتراك شكلوا على مدى السنوات الأخيرة، مصدرا لتسليح التنظيمات الدينية المتطرفة، وكانت بلادهم معبرا أساسيا لتدفق المقاتلين الأجانب إلى كل من العراق وسورية. لكن الأمر الذي بقي رهن التخمينات والتسريبات، هو علاقة الأتراك بالجماعات الإسلامية المتقاتلة في ليبيا. مع هذا، فإن العديد من الأدلة باتت اليوم تشكل قناعة لدى كثيرين بأن صناعة الجماعات الدينية المتطرفة في العالم العربي لا تخلو من تصنيع إقليمي صرف. ففي أيار (مايو) الماضي، قام سلاح الجو الليبي بقصف سفينة شحن تركية تحمل أسلحة لتنظيم “داعش”. وفي شباط (فبراير) الماضي أيضا، صرح الجيش الليبي بأن الأتراك يمدون “داعش” بالسلاح. وفي الشهر نفسه، خرج رئيس الوزراء الليبي عبدالله الثني، في خطوة وصفت بأنها ملفتة وخارجة عن المألوف، متهما تركيا بإغراق طرابلس وفصائل بعينها بالسلاح.
وسط إنجازات النخبة السياسية الحاكمة في تركيا وأزماتها، تختلط العقلانية بالخيال السياسي. فقد مضت سنوات من الإنجازات الاقتصادية والسياسية التي حققتها هذه النخبة، وجعلت من ممارسة السياسة وفق الطريقة التركية عقلانية جديدة تقودها دولة قومية، تؤسس لنمط جديد من السياسة الإقليمية التي لم يألفها اللاعبون الشرق أوسطيون منذ قرون. في المقابل، فإن ثبوت عدم جدية الأتراك في محاربة الجماعات الدينية، يذهب إلى أن العقلانية السياسية التركية تتجه إلى حالة من الخيال السياسي الهش الذي لن يكتب التاريخ.
على مدى عقود، راهنت نظم عربية وإقليمية أخرى على تصنيع الجماعات الدينية، واستخدامها في الصراع على الأدوار. واليوم، تتقاسم المنطقة بأكملها هذه المهمة. فالنموذج التركي غير تقليدي في التغيير، والذي أثار انتباه العالم خلال سنوات عقد مضى، يشهد تحولات عميقة، عنوانها الأساسي الانتقال من العقلانية السياسية إلى الخيال السياسي. هذه التحولات الخطيرة ميدانها الانتقال في إدارة العلاقات الإقليمية والمصالح، من تقديم وتسويق النموذج الجديد للتنمية والديمقراطية والحداثة ونوعية الحياة، إلى نموذج توظيف الجماعات الدينية المتطرفة واستخدامها في إدارة المصالح والعلاقات الإقليمية، وهو أخطر ما قد يغتال هذا النموذج؛ فالتاريخ لا يكتب بالخيال السياسي.