مؤتمر آستانا وتعويم الأسدية


عبد الرحمن مطر

الملامح العامة لمؤتمر آستانا آخذة بالتكوّن في صورتها الأخيرة، ما لم تحدث مفاجآت في الوقت المتبقي لالتئامه الإثنين المقبل، في جولة جديدة من لقاءات المعارضة والنظام السوري، برعاية ثلاثية الرؤوس: موسكو وطهران وأنقرة، وبعيدًا عن المظلّة الأممية هذه المرّة. لكنها أحادية المظلّة والمشيئة، يُحيك خيوطها قيصر الكريملين، بإصرارٍ يُسابق الوقت، قبل أن تدور عجلة الإدارة الأميركية الجديدة في واشنطن، وتُلقي بظلٍ قد يُفسد كل شئ. على الرغم مما يُشاع عن “تلاقٍ” في الرؤى بين بوتين وترامب، تشي به تصريحات متبادلة، غير أن ريح المصالح تغيّر من وقع الخطى أنّا كانت وجهتها.

على الرغم من تكتم الأطراف الراعية لهذا المؤتمر، على جدول أعماله، والغايات المرجوّة منه، وكذلك على المشاركين فيه والمدعوين إليه، فإنه بات بحكم الواضح أن لقاء آستانا، يبتغي تحقيق أربعة أهداف أساسية: أولاها تكريس اتفاق وقف إطلاق النار في سورية، بضمانة قانونية وسياسية مباشرة من الأطراف المعنية على الأرض بصورة مباشرة، مع استمرار ضمانة موسكو وتركيا. هذا البعد سوف يحقق دفعًا ضروريًا ومُهمًّا لتثبيت ما تم التوصل إليه في مباحثات أنقرة، على الرغم من استمرار الخروقات، بذريعة استهداف المجموعات غير المشمولة بوقف إطلاق النار.

يبدو هذا الهدف على رأس أولويات المؤتمر، ومن هنا يأتي توجّه الطرفين الراعيين إلى حصر المشاركة الأساسية والفاعلة بالقوى والفصائل العسكرية الموقعة على الاتفاق، بصفتها الاعتبارية، مع حضور شخصيات ذات طبيعة استشارية، بصفتها الشخصية دون أن تمثل أي جهة في المعارضة السورية.

لهذا التوجه -في الواقع- معطيان أساسيان، أولاهما أن القرار على الأرض، بيد المسلحين (الفصائل)، وهي من تحمي أي اتفاق من أي انهيار محتمل. واعتراف روسيا بها، سوف يمنح الأطراف ثقة متبادلة، تقود إلى فرض اعتراف النظام وإيران بها، وكذلك إبقاء مؤسسات المعارضة: الائتلاف الوطني والهيئة العليا للمفاوضات، بعيدتين عن آستانا –على الرغم من ترحيبهما به– وذلك تأسيسًا على الموقف المسبق حيالهما من روسيا والنظام معًا. ويأتي ذلك تتويجًا لجهد الاستفراد والتفتيت الذي عملت في سياقه موسكو خلال سنتين مضتا، في محطات متوالية، وصولًا إلى اللحظة الراهنة.

وثانيهما، هو تكريس، وشرعنة سياسة المصالحات والهدن المنفردة مع المناطق والبلدات الملتهبة، على أساس إخراج المسلحين منها، كما حدث في حلب وحمص والمناطق الأخرى.

الهدف الثاني، هو التأسيس لإطلاق مسار التفاوض السياسي وفقًا لمرجعية جديدة هذه المرّة، تستند إلى آستانا، تُمثّل فيها موسكو الحجر الرئيس، الذي يقود إلى وضع تصوراتها لحل الوضع في سورية، موضع التنفيذ كأمرٍ واقع، يأخذ بقراري مجلس الأمن (2336 و2254) ومرتكزاتهما، بما يُنجز تسوية سياسية، بين أطراف تعترف ببعضها وتتشارك “حكومة وحدة وطنية” لفترة انتقالية، تستثمر ما تحقق لها من التدخل العسكري المباشر، وتُعيد تأهيل النظام الأسدي بشكل كامل مع إحداث تغييرات محدودة، تُمكّن المعارضة من المشاركة في السلطة، ما يعني العودة إلى المربع الأول، ونسف هدف إسقاط النظام أو تغييره، وعدم تناول قضية بقاء الأسد أو رحيله، إلى أجل غير معروف.

أما الهدف الثالث فهو إنجاز صيغة للتعاون المشترك بين الأطراف الثلاثة، التي تُشكّل مظلّة سياسية وأمنية وعسكرية، لمرحلة آستانا، تجعل منها، دائرة القرار الرئيس في الشأن السوري، ما يفرض وضعًا سياسيًا واجب التفاعل معه من قبل المجموعة الدولية، يُعيد تشكيل خارطة التوازن الاستراتيجي في المنطقة، إثر اختلال العلاقة التركية – الأميركية، وتوجه ترامب نحو إعادة بناء العلاقات الأطلسية، بعيدًا عن الارتكاز إلى حلف الناتو. صيغة التعاون هذه، سوف تحقق انسيابية في العلاقات، تؤمّن درجة عالية في التنسيق، وفي حل المشكلات التي تعترض إنجاز الاتفاقات التسووية من جهة، وتتولى من جهة ثانية استمرار الحرب على “الإرهاب”.

أما الهدف الرابع، فهو هروب هذه الأطراف إلى الأمام، استشعارًا بمخاطر تفعيل الملاحقات القانونية الدولية، إذا ما حدث توافق دولي، في لحظة ما، على فتح ملف المجازر في سورية.

ولعل نجاح هذه الأطراف في عقد مؤتمر آستانا، والخروج بنتائج الحدّ الأدنى، سيجعل منها شريكًا أساسيًا في أي عملية تفاوض لاحقة، تحت المظلّة الدولية، ولا يمكن استبعاد أي طرف منها، وخاصة مفاوضات جنيف المقبلة.

جميع الأطراف محتوم عليها المشاركة في آستانا، ولكلٍ منه، أسبابه ومبرراته، فقد وصلت الأوضاع في سورية إلى أزمة بلا ضوء في آخر النفق، سواء أكان الأمر يتصل بالنظام المتآكل، أم روسيا التي تريد الانتقال العاجل من التدخل العسكري، إلى قيادة العملية السياسية، أم إيران وتركيا اللتين أنهكتهما أيضًا تدخلاتهما المباشرة، وأخذت تنعكس سلبًا على أوضاعهما الإقليمية والدولية، خاصة بما يتصل بتركيا. أما إيران فإن استمرار حالة الاستنزاف يفقدها القدرة على السيطرة على مفاتيح التحكم بالقوى الميلشياوية والأمنية في سورية، خاصة في ظل تراجع قدراتها أمام التدخل الروسي الكبير.

أما الفصائل المسلحة ليس أمامها سوى الذهاب إلى المؤتمر، التزامًا منها بوصاية الطرف التركي الضامن لها، طائعة راضية أم مجبرة. غير أن الواجب يفرض على جميع القوى السورية مساندتها، بالدعم السياسي والقانوني، وألاّ تترك وحيدة في ظل تفاهم على إقصاء مؤسسات المعارضة السورية عن المشاركة في المؤتمر، في لحظة اهتراء قصوى، ومفصل مهم، قد يشكل علامة فارقة في القضية السورية، تؤسس لما يأتي لاحقًا.




المصدر