الصدام والتفاعل (في ثقافة احترام الرأي والاختلاف)


باسل الحمادة

(المقال الحائز على المرتبة الثامنة بـ “جائزة حسين العودات للصحافة العربية” لعام 2017).

تذعن المعتقدات لنهايتها حين تتطرف آراؤها، وتكون بداية نهايتها حين يحابي يعض الآراء بعضها، ثم تركن إلى الاستقرار إلى أن تتلاشى، ولاسيما حين لا نكون سببًا في حركة تفاعلها، وبالنقيض تتكون وتنضج وتتطور الآراء بحركات تفاعل مستمرة في ما بينها، واضعةً دولًا على هرم التقدم الثقافي والفكري، ولا سيما بعد ثوراتها الدموية، ولتبدأ هذه الحركة بالتوجه إلى المنطقة، وتتصادم مع معتقدات وثقافات مجتمعاتنا المتشربة خلفيات دينية وقومية، مدفوعة من خشيتها الإقصاء، ولاسيما إذا كانت هذه الآراء ذات صبغة إشكالية، وتوصف بالدخيلة والبديلة لمعتقدات المنطقة.

هذا الصراع للرأي وللفكر المتصادم بدأنا نعيشه في ظل الثورة، وفي ظل غياب منهجي لضبطه؛ حتى في أبسط صوره التي تعتمد على احترام الرأي الآخر، وبدوره يؤدي إلى وعي مفهومات نحتاجها من أجل الاستقرار.

وقد تفاقم الصراع في المشهد السوري بعد تغذيته بالعدائية للرأي الآخر؛ حتى حطم الصراع الدموي جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية، متخذًا -في كثير من الأحيان- همجية الـ “لا تفكير”؛ لخلق آراء تؤجج الصراع، فهشاشة الوعي والفكر جعلتها تتسرب بسهولة إلى عقولنا؛ ليتحول الصراع إلى صراع همجي في أغلب المناطق؛ نتيجة للفكر الذي غرسه الاستبداد خلال عقود، وأنتج جيل “الأيديولوجيات” المبني على مفهوم “الأوحد”، بدءًا من الحزب والمذهب والفقيه والإعلام والرأي الأوحد متمثلًا بشخص القائد الأوحد.

هذا الجيل المؤدلج المتشبع ذهنيًا -في معظمه- بفكر الاستبداد، وبنظرية الأوحد، هو نتاج لنظام قمعي استبدادي، ثار ردةَ فعل على واقع بائس اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، فمارس -مع الأسف- ثوريته بمفهوم “الأوحد”؛ ليضعنا أمام نسخة مكررة من عهد الاستبداد وسياسة العصبية والإقصاء.

تلك العصبية السوداوية التي لمسناها، وتعاملنا معها في جميع مراحل الحياة في بلدنا، بوصفنا شعبًا من تلك الأرض، في عملنا وشوارعنا، في كتابنا المدرسي؛ وحتى في أسلوب تربية أولادنا، كانت الظل المخيف الذي رافقنا طوال عتمة الاستبداد.

وبعد هذه العقود من الاستبداد الفكري كلها، وما رافقه، علينا أن نتخيل حجم ما تحتاجه كل تلك الأجيال من نهضة توعوية؛ كي نتقبل الرأي والرأي الآخر، ونتقبل حقوق وحرية الآخرين؛ ما يفسح المجال لصدامات تتحول إلى تفاعلات إيجابية، لا ترفع فيها أسلحة ولا أصابع التهديد، ولا حتى الصراخ ليس في وجه النظام الأسدي، وإنما في وجوه بعضنا بعضًا.

“فلا تأليه لشيء؛ فالثورة وجيلها تحت النقد”

عندما نتحدث عما ارتبط بالثورة من مساوئ، لا نعني الثورة بمفهومها السامي، وهو السعي نحو نيل الحقوق والحريات، ولا إلى أولئك الذين ثاروا سعيًا لاسترداد حقوقهم المسلوبة، وإنما نشير إلى أولئك أصحاب المفهوم “الأوحد” الذين استولوا على دفة القيادة؛ فغاصت السفينة، فلم نرَ أو نلمس، لا لدى النظام السوري، ولا لديهم، الخير لنميزه من الشر، ولا الفرج؛ لنميزه من الضيق، ولا الأمل لنزيح به اليأس، ولا الحب لنتغلب على الكراهية، بكلام آخر لم نجد لديهم من الصالح ما يميزهم من النظام الأسدي الطالح.

“لهذا كان عقلنا وواقعنا يبحثان عن النقيض”

سأستحضر واقعًا مؤلمًا من الغوطة الشرقية، يتمثل ببضعة من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان الناشطين المعروفين بالمختطفين الأربعة الذين أُختلف معهم في كثير من آرائهم وثقافتهم وسلوكهم.

فكانوا الامتحان عسيرًا لبضعة أشهر من الزمن، لم يستطيع خلالها المُختطِف والمختلف معهم تحمّل أعباء ألسنتهم، تنتقد سياسته المعتمة في بيئة “الأوحد” التي لم تنضج فيها فكرة احترام الرأي الآخر؛ ليختطفهم ويزج بهم منذ ثلاث سنوات في معتقل مجهول، ويتحول الاختلاف في الرأي إلى خلاف واقعي مؤلم، ذلك المُختطِف لم يجد مخرجًا من الامتحان إلا بإقصائهم، جاعلًا العنف هو البديل من العقل والحوار، وصوت السلاح هو البديل من الكلمة.

هذا هو جيل الاستبداد يُغيب الاحترام فيه، وتُطلق يد الجهل والتعصب والعنف والفكر الذكوري؛ ليمارس من عصبة على امرأتين، ومعهما رجلان علمانيان وديمقراطيان، من عصبة وضعت الديمقراطية تحت أقدامها، واتخذت من الإسلام مفهومًا خاصًا بها، صنعت منه سوطًا تدافع به عن نفسها، وكذلك هو الاستبداد “.

“هنا النقيض في ثنائياته ”

حين ينشد طيف المجتمع الواحد الحرية، ويمارس قلة منه سياسة الرأي الأوحد والإقصاء للرأي الآخر على الجميع، حين يتعامل الناشطون بإنسانية راقية، تليق بسمو رسالتهم الثورية، ويفتي فرخ المستبد بقتلهم واعتقالهم من أفرعه الأمنية المستنسخة من خمسة عشر فرعًا أمنيًا لدى النظام الأسدي، سيتحول الاختلاف إلى خلاف.

لابد من أن نعترف بأننا محتاجون فعلًا إلى دروس وتجارب؛ كي نوقن بأن احترام الرأي الأخر، والاختلاف لا الخلاف، هو نضوج فكري يستلزم كثيرًا من الوقت والوعي؛ ليتحول إلى ثقافة سلوك، ولابد من أن يتخلله بعض الصدامات كي تتفاعل الآراء؛ لتنتج أجيالًا مشبعة بالوعي الفكري، وهي البنية الأساسية لبناء المجتمعات، واستخلاص عقد اجتماعي يترجَم قانونًا يحظى باحترام الجميع؛ ليصون الآراء ويحميها، ويضع جميع أطياف المجتمع، وباختلاف مشاربهم، سواسية تحت ظله.




المصدر