الإعلام الغربي المتهم الطليق!


محمد خليفة

لم يكتف المفكر الراحل إدوارد سعيد بتأليف كتابه الموسوعي (الاستشراق) في السبعينيات موثقًا علاقة الغرب الإمبريالي بالعالم العربي طوال قرون، حتى أصدر عام 1981 كتابه (تغطية الإسلام) ليوثق بطريقة علمية دور وسائل الإعلام الغربية المعاصرة، في تشويه الإسلام بوصفه دِينًا، وتشويه قضايا العالم العربي تبعًا له، وهو ثالث ثلاثة كتب تحيط بعلاقات الغرب والعالم الإسلامي من كافة جوانبها، ماضيًا وحاضرًا، وكأنه يقول إن “وسائل الإعلام” تقوم في هذا العصر بوظيفة استشراقية، خدمة للاستراتيجيات الإمبريالية.

مع أن د. سعيد حدد ثورة الخميني 1979 وما تلاها من صدام مع أميركا، كنقطة انطلاق لحملة الغرب الحالية المعادية للإسلام، فهو يثبت أن الحملة لم تقتصر على إيران، ولكنها شملت كافة البلدان العربية والإسلامية، وقضايا شعوبها أيضًا، كقضية فلسطين، والنضال التحرري، والطاقة. وهو لا يتجنى على “الإعلام الغربي” بل يثبت مسؤوليته المباشرة عن ترويج صور نمطية، وأحكام جاهزة تعسفية على الإسلام والمسلمين، كدين (شيطاني) مرتبط بالشر والعنف.

اليوم بعد 36 سنة من كتاب د. سعيد، يمكننا أن نرى في صعود الموجات اليمينية العنصرية والشعبوية المعادية للإسلام في الغرب ثمارًا سامّة لتلك الحملة التي بدأت في إيران والشيعة، وانتهت بالعرب والسنَّة، وجسدتها سياسة ترامب وخطابه الانتخابي، وفكر مستشاره السابق الجنرال فلين، ومستشاره ستيف بانون، أو أيديولوجية حزب الجبهة الوطنية في فرنسا، وحركة (بيغيدا) في ألمانيا، وأحزاب كثيرة في هولندا والنمسا وبريطانيا والمجر والسويد وإيطاليا.. إلخ.

أكثر ما يُقلق في هذه الموجات أنها اخترقت البلدان الأوروبية كافة، بما فيها دول الشمال التي تميزت سابقًا بالاعتدال والتسامح، إذ أصابتها العدوى في الأعوام الأخيرة، وأضحى العنصريون القوة الثالثة المرجحة في معادلات البرلمان، بفضل تحكمهم بكفتي اليمين أو اليسار. وفي دول وسط أوروبا كالنمسا وبلجيكا وهولندا، أوشك المعادون للإسلام أن يفوزوا بالرئاسات الأولى أو الغالبية البرلمانية، أو يكونوا منافسين أقوياء في أي انتخابات. هذه السمة تؤكد أن أوروبا الموحدة أصبحت تشبه (أواني مستطرقة) يرتفع فيها السائل بدرجة واحدة. ولذلك فهي لم تنتشر فقط في كافة الدول، بل انتشرت بالمستوى نفسه في التيارات الاجتماعية الداخلية دون استثناء. ويلاحظ إدوارد سعيد أن موجات العداء للإسلام قد اخترقت التيارات الثلاثة الرئيسة، اليمين واليسار والوسط؛ فالأول لا يرى فيه إلا (ظاهرة بربرية)، وأما الثاني فيراه نموذجًا جديدًا من (ثيوقراطية القرون الوسطى)، وأما الثالث فيراه في أحسن الأحوال نمطًا من (الغرائبية الشرقية) المقززة!

لقد اتسمت العقود الأربعة الأخيرة من عصرنا بثورة تكنولوجية ورقمية، وبتطور سريع لوسائل الإعلام على كل المستويات، وإذا كان هذا هو وجه (العولمة) الإيجابي، فإن وجهها السلبي يتبدى في إسفاف وانحطاط المادة الإعلامية، مهنيًا وفكريًا، في تعاطيها مع كل ما له صلة بملفات الإسلام والعالم الإسلامي، وتضحيتها بالموضوعية على مذبح عدائها المتأصل، وفي ميلها لدغدغة غرائز اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية، لأغراض ومصالح مادية وغايات أيديولوجية. إذ انطوت تغطياتها لشؤون الإسلام والمسلمين على مغالطات فاضحة، واعتمدت منهجية ثابتة تقوم على تزييف متواصل للحقائق تصب محاصيلها في طاحونة التأزيم والتوتير، وتنساق في أربعة مَصابّ رئيسة:

أولًا: الدمج بين الإسلام دينًا، والإسلام فكرًا وتراثًا، وبين هذين والمسلمين شعوبًا وأنظمة وأفرادًا، حتى إن الفرق يكاد ينعدم بين مفهوم الشعوب والأنظمة التوتاليتارية سيئة السمعة، وحركات الإرهاب كالقاعدة و(داعش)، والمؤسسات الإسلامية الاجتماعية والتربوية والخيرية، فالتعميم هو السائد في الغالب، وإطلاق الأحكام التعسفية على جميع المسلمين بلا تمييز.

ثانيا: التركيز على أن الإسلام ذاته، عقيدة وشريعة وتراثًا هو دين متطرف، يعادي الآخر، ويتناقض مع قيم الحرية والديمقراطية، ويعادي الغرب وأنماط حياته. وفي الأعوام الأخيرة اضمحلت في نظر الإعلام الغربي المسافاتُ الواقعية بين الإسلام كعقيدة وممارسات متعددة، تتباين بين الأمم والمذاهب التي تعتنقه وتطبقه بأشكال مختلفة ومتعددة.

ويصل الخلط على هذا الصعيد إلى درجة الخلط بين مشاعر الخوف مما يدعى (التطرف الإسلامي) بالنزعات العرقية والثقافات العنصرية تجاه (الملونين) من المهاجرين والشعوب الآفرو-آسيوية، وصارت هذه تتغذى على تلك، وتستمد منها طاقة النمو والتفاقم.

ثالثا: الدمج المتعمد بين الجاليات المسلمة في الغرب والشعوب الإسلامية مع أن هذه الجاليات عنصر اجتماعي وسكاني وثقافي من المجتمعات الأوروبية، وبعضهم بلغ الجيل الثالث والرابع، وبعضها تبلور منذ بداية القرن التاسع عشر، وساهمت في جميع مراحل تطور المجتمعات الأوروبية، وليسوا طارئين ولا عارضين ولا هامشيين. ومع ذلك تتعمد وسائل الإعلام الغربية تصويرهم مهاجرين غير قانونيين، وعاطلين عن العمل، وجنودًا لغزو عرقي وديني مستتر، يستهدف نشر الإسلام بالقوة في أوروبا. وبلغ الخلط ذروته بتصوير زهاء ثلاثين مليون مسلم في “الاتحاد الأوروبي” طوابير خامسة وجواسيس وعملاء تابعين لدولهم الأصلية، ولأنظمة موصوفة بالرجعية والأصولية. وبهذه الطريقة تنزع عنهم صفة المواطنين ويصبحون متهمين حتى يثبت كل منهم العكس، وتابعين لمجتمعاتهم الأصلية، ويتحملون أوزار أي أزمة بين حكومات الطرفين، ويعاقبون جماعيًا.

رابعا: التحيز العرقي المسبق ضد الإسلام، والتعاطي معه كمنتج ثقافي تاريخي خاص بشعوب الشرق، بما فيها من مسيحيين أيضا. ومن يراجع ما ينشر في أوروبا من كتب ودراسات، ومقالات صحافية، أو حتى برامج وأفلام يفاجئه أنها لا تميز بين مسيحيي الشرق ومسلميه، وهي قرينة على تأصل النظرة العرقية وشموليتها للجميع، مثلها مثل النظرة الدينية.

على سبيل الذكر لا الحصر، نشير إلى كتاب فرنسي صدر في باريس عام 1986، وأحدث أصداء مرحبة، عنوانه (مسائل الإسلام) ألفه لوك باربالسكو وفيليب كاردينال، ويتضمن حوارات ثقافية مع شخصيات عربية أدبية وفكرية، حول طيف واسع من قضايا الحداثة في الشعر والرواية والنقد.. فضلًا عن مسائل الحرية والسياسة. تقرأ الكتابَ، وهمُّك البحث عن علاقة الإسلام بموضوعات الكتاب، فتجد أن بين من شملتهم الحوارات عددًا غير قليل من المبدعين العرب غير المسلمين مثل إميل حبيبي وإدوار الخراط ويوسف الخال ولويس عوض، لا بالانتماء المذهبي، ولا بالانتماء الذهني فكيف ينسجم العنوان مع المحتوى والمادة؟ وتنتهي القراءة باستنتاج وحيد هو أن حشر الإسلام في عنوان الغلاف هدفه الجذب والترويج التجاري وحسب، ولا سيّما أن الفترة التي صدر فيها الكتاب، بعد سبعة أعوام من ثورة الخميني، تبرر أو تفسر الغاية!

هذه الطريقة في (تغطية الإسلام) وتقديمه عبر وسائل الإعلام، وعبر مراكز الأبحاث التي توصف بالمتخصصة والأكاديمية إلى الرأي العام والجماهير المتلقية مسؤولة مسؤولية مباشرة عن خلق ونشر مغالطات لا حصر لها، ساهمت مساهمة كبيرة في إشاعة سوء الفهم، وبث الكراهية، وإفشاء الخوف من الإسلام، ووصم المسلمين بالنعوت العنصرية العدائية والحاطّة من كرامتهم، وهي المسؤولة في النتيجة عن تشكل ظواهر الفوبيا المتضخمة والشك والتوترات الاجتماعية والاعتداءات المتبادلة بين المسلمين من أصول مهاجرة وبقية الشعوب الأوروبية، ولا سيما الشرائح المحدودة الوعي والثقافة.

هذه الأعراض وتفاعلاتها السريرية في الحياة اليومية، على مدى 30 – 40 سنة، هي التي مهدت لطفو الخطاب الشعبوي على السطح، واستقواء واستفحال التيارات العنصرية المعادية بشكل عشوائي لكل ما يتصل بالإسلام والمسلمين والمهاجرين والملونين.

في لغة القانون الجنائي هناك دائمًا قتلة وجناة، لا يمكن للقانون الإمساك بهم.. وسائل الإعلام الغربية متّهم كهؤلاء، ولكنه متهم طليق!




المصدر